الجمعة، 20 أغسطس 2010

و.. افترقا

في المسافة التي بينهما في الصورة فاصل غير مرئي لكنه موجود.وتبان لهفة على وجهيهما.لهفة موزعة بالتساوي بينهما فلا يبدو الولد أكثر لهفة ولا الفتاة. كلاهما يحمل نفس اللهفة.هو وقت الفراق وقد حان أوانه.
تقول الصورة أنهما لايبحثان أسباب فراقهما. لقد حدث ماحدث ولانعلمه،ولا وقت لهما كي يبحثا فيه. سعي نحو امتلاء فقط. سعي لاهث وراء اقتناص لحظة أخيرة قد يبدو تعويضها صعبا ولاينبغي غير ترك الأصابع للأصابع كي تفعل لمستها وارتعاشتها.
- لن نلتقي ابدا ياحبيبي!
-من يدري.
- المسافة لاتكذب!
- لكني ما أزال محتفظا بقُبلتك في قلبي.
الضباب الكثيف الظاهر على الفاصل غير المرئي يقول بألم:نعم، لن نلتقي.
الضباب علامة حزن وكئابة وليال قادمة لن تنتهي ولن تذهب بسهولة لحال سبيلها.
- ماذا سأفعل بكل هذا الوقت الذي سيأتي بدونك؟
- هل يمكن أن تكون السجائر حلا!
- من يدري..
لكن لن نلتقي أبدا يا حبيبي..

الخميس، 19 أغسطس 2010

عباس بيضون .. صديق الجميع

                                              (1)
لايعطيك عباس بيضون سنه الحقيقية.تراه في الكرسي ، كطفل نسيه أهله في قاعة مكتظة بكائنات كبيرة تتحدث في أمور معقدة.بينما راح هو يلعب بالقلم الرصاص الموضوع قبالته. ويظل يخربط في ورقة بيضاء أمامه كوسيلة لتزجية وقت ثقيل لا يريد أن يمضي لحال سبيله. على هذه الهيئة رأيته للمرة الأولى في صنعاء ، حين مشاركته في برنامج الحوار العربي الألماني ، الفعالية التي شارك فيها غونتر غراس ومحمود درويش وأدونيس وصبحي حديدي العام 2002.وهو الانطباع الذي سيتكرّس عنه في الأيام التالية .
                             (2)
وعليه تخال كل حياته لعبا.يحق له هذا، وهو الطفل الأبدي غير المستقر في " مكان فعلي".كثير النسيان ، حتى أنه ينسى دواءه الكثير الذي لاحقه من بعد خروجه أو هروبه من بيروت إلى فرنسا خوفا من السجن الذي كان قد جربه من قبل في السجون اللبنانية كما السجون الإسرائيلية. " في لحظة جبن كبرى، كنت مناضلا في الحزب الشيوعي، ومعلوم أن الحزب خاض مع حلفائه الفعليين مجابهة مع النظام السوري الذي أبليت عددا من الخطب في معارضته. بعد دخول سوريا إنتابني خوف كبير على نفسي، وأنا سبق أن جرّبت السجن اللبناني، فدخلت في حالة كابوسية من الخوف، ودفعني ذلك إلى السفر. بعد أشهر أُصبت بانهيار عصبي وعولجت في مصح نفسي.."، يعترف بيضون. بعدها كانت الأدوية الكثيرة . وكان عليه أن يخفي الخبر حتى لايعلم أحد. حتى زوجته السابقة، كان معها وهي لاتعرف بمرضه . هو الخوف من الفضيحة ، بحسبه.وعلى هذا كان عليه أن يمارس حياته كما لو لم يكن يعاني . كما لو لم يكن في الألم التام . أن يعيش حياته بطبيعيه وبصمت .. وبشغل كثير حتى لا يشعر الأخرون بما يخفي. فيما يخص كتابته في " السفير "، كان عليه أن يكتب مقالته في موعدها المحدد بلا تأخير وعندما يشعر بأن الحالة اقتربت كان يسارع لإكمال ما عليه قبل أن تهبط عليه. هي حياة داخل حياة . حياة لايشعر بها غيره. كما وهي الكتابة من أجل الشفاء. ولولاها لكان الانتحار أمر وارد.
" إنها بقعة قوية..كلما غسلتها تجددت أكثر وانتشرت.. تعيش الأخطاء طويلاً هنا وتترك بقعاً أكبر.. ثم إنها طريقة سيئة لصناعة الذكريات أن ندس أيدينا في كل شيء.. ربما لن تفهم أيضاً أنك تركت بقعاً في كل مكان.. أن أفكارك تلطخ أكثر من نبيذك.. وعلى صدرك بقعة الجرح التي تمتد أكثر في جلدك ومهما ابتعدت فإن حياتك تستمر مكشوفة ومشبوهة هنا". يقول عباس .                                       
                              (3)
ربما من هنا تأتي كتابته .كتابة خارج المتوقع.ومن خارجه هو.كتابة لا نعرف كيف يقوم بتشكيلها وصبها في مقال جديد كل يوم .ربما تأتي من حالة انشقاق عن ذاته وعن الحالة الفوضوية التي يعشيها. لحظة فقط تسمح له أن يكون صاحب فكرة صلبة وعبارة متينة لايجيدها سواه.أو لا يعرف مكوناتها غيره.وهو ما يجعل مقالته الأسبوعية في " السفير الثقافي " أو أي مقال يومي في نفس الجريدة ، هدفا مرغوبا على طول عند قراء كُثر يجدون فيها تلك اللغة التي يحبون كما والفكرة التي تأتي مغايرة تماما للسائد وقتها . كتعليقه على الأحداث اليومية الآنية .سياسية كانت أم ثقافية .ينشر مقالته بعد يوم واحد ربما من الحدث فينظر إليها القارئ كما لو أنها كُتبت منذ وقت طويل نظرا للمتانة المكتوبة بها كما والقدرة على سبر أغوار الأمر الجاري وكشفه. ونفس الأمر يحدث عندما يكون بيضون على سفر. حال دعوته لمؤتمر شعري هنا أو لمؤتمر ثقافي هناك. يبعث بمقالته من حيث يقيم. لاينتظر حتى يعود كي يقوم بتفريغ الكاسيتات التي قام بتسجيلها أو تجميع الملاحظات التي قام بتدوينها. هو درس قدير في الصحافة وكيف تكون.درس يقدمه لنا بيسر عبر مايقوم بفعله .(شخصيا ، أقول معترفا أن أول ما يكون على أصابعي البحث عنه فجر كل يوم موقع جريدة " السفير" البيروتية و مقالة جديدة لعباس بيضون. في ملحق الجريدة الثقافي كل جمعة أو في مقالة "إشكال " كل يوم اثنين، وبينهما مقالة هنا أو هناك قد يفعلها في ملحق" نوافذ" التابع لجريدة المستقبل.وما أن أنتهي من قراءتي الأولى، أروح واضعا إياها في ملف خاص عمره أكثر من خمس سنوات ويحمل اسم "عباس بيضون".به مجموع مقالاته طوال هذه الفترة وإليها ما استطعت العثور عليه عبر دليل " غوغل"الذي لايخطئ. مقالات أعود إليها بين فترة وأخرى.القراءة هنا بوصفها تمرينا على الكتابة .. الحلوة ).
وفوق كل هذا، هناك السخرية. في عبارته كما في حياته تماما.هو يسخر على طول . يكتب رواية طويلة كي يوثق فيها حبه لسيدة متزوجة، صارت الآن جدّه .ولذلك يقرر عدم نشرها كي لايحيلها إلى مادة للسخرية والقيل والقال .وعليه يفعل قولبة للسخرية كي تكون على مقاسه هو.يكتشف مثلا أنه لايصلح للزواج. لايستطيع عليه صبرا فكان طلاقه .يعتقد أن هناك أشخاصا ، مثله لاينبغي لهم الزواج.ليس لأنه كثير النسيان فحسب ولكن لأنه شخص متطلب وكثير السخرية من كل شيء.هي ذاتها الأشياء التي لا يصدقها أبدا.
                      (4)
عندما ترى عباس بيضون سائرا تلاحظ أنه لا يرفع بصره.يُبقي عينيه على الأرض كأنما ، في كل مرة يحصي بلاط الرصيف، ولايمل. لايتلفت يمينا أو يسارا. على طول تكون مشيته وبنظرة منخفضة قليلا للأسفل. عباس بيضون الذي نجا من الموت كثيرا كان يجتاز مساء الثلاثاء جسر فؤاد شهاب الذي يفصل بيروت عن بيروت حيث التقته سيارة كانت على عجلة من أمرها فلم تنتبه للرجل الذي لايرفع عينيه عن الأرض عندما يسير .
صديق الجميع ، عباس بيضون يرقد الآن في إحدى غرف مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت في حالة حرجة محاطا بصلوات أصدقائه .
                            (5)
أعتقد أنه سينجو يا فتحي أبو النصر..