السبت، 2 نوفمبر 2013

مروان الغفوري .. هذه ليست روايتي



نجا الكاتب اليمني في عمله الثاني «الخزرجي» (دار أزمنة ــ عمّان) من فخّ السيرة والتحدّث عن الذات كما تميل معظم الإنتاجات الشبابية اليوم

يأتي الكاتب اليمني الشاب مروان الغفوري (1980 ــــ تعزّ) الرواية من باب الشعر، عاكساً حالة من الهجرة الجماعية التي فعلها شعراء وكُتّاب قصة قصيرة في اليمن. كأنّ ما فعلوه في السابق كان تمريناً عبّد الطريق باتجاه عالم الرواية. كاتبنا كان قد ظهر في إصدارين شعريين مبكّرين هما «ليال» و«في انتظار نبوءة يثرب». في هذين العملين، لم يقدر الغفوري على مغادرة القاموس اللغوي المترسب في عقله وثقافة دينية وعقائدية صارمة ارتبط بها مبكراً.

لكنّه بدا كأنّه يرغب في التخلص من ذلك الإرث في إنتاجاته الكتابية التالية. بهذا المعنى، كانت الرواية مفتاحاً لتلك الرغبة التي يبحث عنها، فكانت باكورته «كود بلو»، (دار أكتب_القاهرة) التي قتلتها الأخطاء الطباعية التي احتوتها، فظهرت منفلتة وينقصها الكثير. ارتباك فني تعافى منه في روايته الجديدة «الخزرجي» (دار أزمنة _ عمّان).
تمنحنا القراءة الأولى لهذا العمل ملامح عن قدرة كاتبه على التخلّص من العثرات التي ترتبط عادة بالرواية اليمنية الشابّة، أي الاعتقاد بأنّ حياة الكاتب وما كان له منها قادران على فعل رواية ما. عثرة ظهرت في باكورة الغفوري «كود بلو» حيث انعكست حياة المستشفيات التي كان يعيشها أثناء دراسته للطب في القاهرة في أجواء العمل.
هكذا، تمحورت الحكاية حول مريض توقف قلبه عن النبض، فبقي يتلصّص على الأحياء الذين يحيطون بالمكان.
في «الخزرجي» التي كتبها الطبيب مروان، لن نجد شيئاً من سيرته وحياته اليوم باستثناء محطة القطار الواقعة في المدينة الأوروبية التي يقيم فيها حالياً، وهي المحطة التي ستكون قاعدة لانطلاق الحكي عن «الخزرجي» ورفيقه المجذوب عبد السلام اللذين يشكّلان محور العمل.
لكن يبدو أنّنا سنقع في المتاهات منذ الجزء الأول من الحكاية، ونحن نحاول ترتيب الأصوات الساردة: لدينا الخزرجي والمجذوب من جهة، ومن جهة أخرى الراوي ورفيقته التي تقاسمه مقاعد محطة القطار التي يذهبان إليها في مواعيد غير محدّدة مسبقاً.
إنّه أمر جديد على الرواية اليمنية التي اعتاد قراؤها أشكالاً سردية تقليدية تحرص على ترطيب عملية المرور إليها بشكل
عام.
لكن لا يبدو أنّ صاحب «الخزرجي» يتعمّد وضع عراقيل أمام جريان السرد ومرور تفاصيل القصة الكبيرة إلينا. هو يعرف كيف يحطّ ويتنقل، ويعرف أيضاً أين هي القصة الكبيرة، رغم العراقيل الكثيرة التي قد يقع عليها القارئ كمعضلة الزمن التي يجري فيها الحكي، فلا نعرف إن كان البارحة أو الغد! إذاً، علينا أن نبقى يقظين ومتنبّهين ونحن نقلب «الخزرجي» قطعة وراء أخرى، وانتقالاً تلو آخر. يحكي الراوي لرفيقة المحطة عن الخزرجي الذي كان مقيماً في تلك البلاد البعيدة التي كان هو مقيماً فيها. ثم سرعان ما تعود الرفيقة لتسلّم أداة السرد، فتسأل عن عبد السلام المجذوب الذي كان نديم الخزرجي. خطوة تظهر بعدها ملامح البنية الكاملة للعمل.
لا حدث رئيسياً ومحورياً في الرواية، بل إنها تقوم بكاملها على السرد عن طريق صوتين هما الراوي وصديقته. البنية برمتها ستبدو غائمة، والحدث العام يتمثل على نحو لا يحمل عنواناً جامعاً في الظاهر. حتى تلك الرفيقة ستبدو محاطة بهذه الحالة الغائمة. يقول الراوي «كم أتمنى لو أنني استطعت أن أروي سيرة الخزرجي. لقد تحدثنا بصورة عامة عن الرجل. لكنها عاجلتني بالقول إنّه ربما كان شاعراً أو فناناً». لكن ضبابية شخصية الخزرجي وحياته ستتكشّفان تدريجاً مع الإيغال في السرد.
ستبدو عملية إنتاج الإسقاطات والتناص والإشارات والمراجع الفذّة التي تمتلئ بها «الخزرجي» مفتاحاً لتكوين العنوان العريض: الأسئلة التي بلا إجابات محدّدة. وتبدو هذه الأسئلة شخصية لكنها تستلقي على شأن إنساني قد يلمسه كل قارئ من الجهة التي تعنيه وتخصه. كأنّ مروان الغفوري يقول: «هذه ليست روايتي وليأخذ كل واحد منكم ما يعنيه». إنّها نجاة من شِراك الذاتية التي يغرق فيها غالبية صُنّاع الرواية اليمنية اليوم ليظهروا لنا كأنهم يحكون لأنفسهم عن أنفسهم.

نًشر بجريدة "الأخبار" - بيروت العدد ٢٠٩٢ السبت ٣١ اب ٢٠١٣

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

صرت كبير العائلة

يد بابا جبران

أخي محمّد مات. كيف سيمكنني نقل الخبر إلى أبيّ العجوز الذي يعيش في التسعين من عمره! كيف أخبره وأقول: لقد مات أقرب الناس إلى قلبه.أقرب الناس إلى العائلة والناس.
مهمة ثقيلة كانت. ها أنذا أبدأ في ممارسة مهنتي الجديدة: وراثة المهام الثقيلة التي كان محمّد يتكفّل بها بمفرده في وسط العائلة.

عندما كان على قيد الحياة كنتُ مطمئناً دائماً ولا أحمل عبئ شيئ. هو كان يقوم بالأشغال الاجتماعية التي لا طاقة لي بها ولا أقدر عليها فاحتمالي لها ضعيف. ولهذا كانت ماما تقوم بانتقادي دائماً: "ستعيش وحيداً ياجمال وستموت وحيداً على عكس أخوك محمّد". لكن يبدو أن ماما أخطأت التوقع هذه المرّة؛ فمحمّد هو الذي مات وبقيت أنا على الأرض من دونه،وحيداً.

كنت أقول: لو مات بابا جبران أو ماما زمزم فسوف يتكفّل محمّد بترتيب كل شيئ؛الاتصال بالأقارب والأصدقاء،تدبير أمور المقبرة  واستئجار صالة لاستقبال المعزّين وأمور الولائم المفترضة في مثل هذه الطقوس التي لا أعرف عنها شيئاً. محمّد كان عالماً بكل هذه المشاغل وقادراً عليها بحكم جيناته الاجتماعية وتواصله الدائم مع العالم،على عكسي تماماً. لكنّه مات وتركني أتكفل بكل شيئ. لقد أصبحت كبير العائلة.

لا أدّعي إن الله قد أثقل عليَّ عندما قرر اختطاف محمّد من حياتي، لقد قتلني.هذا ما يمكن قوله بكل بساطة. هل فقدت الدنيا أهميتها عنديّ! نعم، وصار عليَّ منذ اليوم أن أواصل حياتي بالقوة القليلة التي تبقّت معي.

وأقول في نفسي: ماهي القسوة! هي هذه المهمة التي سأقوم بها الأن وأنا أقوم بنقل خبر موت محمّد إلى بابا.
كان الوقت قرب الفجر والدنيا رمضان. مطر قليل يحاول النزول في مهمة كأنها لترطيب جوف القبر الذي سينام فيه محمّد إلى الأبد. دخلت بيتنا القديم وبابا مستقر في ركنه الأثير في انتظار صلاة الفجر. سلّمت عليه بتقبيل رأسه،كالعادة.طريقة يعرف منها أنه أنا. طريقة اخترعتها بعد أن صار أعمى لا يرى ويقدر بواسطتها تمييزي عن غيري من أفراد العائلة. كانت أخر زياراتي له قبل نحو ستة أشهر، كنت خارج اليمن.
قلت له: هيّا بابا. توقفَ عن مضغ التمرة التي في فمه الخالي من الأسنان. قال: لافين (إلى أينّ؟). كنت أعرف انه عارف بالخبر. انه قد عرِف، قلبه خطير ودليل لم يخدعه يوماً. كان ينتظر فقط من يوصل إليه الخبر كي يتحرك بناء عليه. مهمة الإيصال،هذه التي تكّفلت بها أنا.

بدت المسافة بين بيتنا هذا وبيتنا الثاني،حيث أقيم مع ماما، طويلة جداً وصامتة من ناحيتي ،في حين كان فمه يصدر صوتاً خفيفاً كأنه يناجي السماء أو يتحدث مع الله في عتاب صغير بينهما.

كان يلزمنا تجاوز نقطة حاجز عسكرية من أجل الوصول إلى البيت.ما تزال الأحوال مضطربة بعد رحيل علي عبد الله صالح. العسكري الذي طلب فتح نافذة السيّارة بغرض التفتيش والتحقق من الهويّات لم يفعل أكثر من هذا. لقد كان خبر موت محمّد ظاهراً بوضوح على وجهيّ فمنحنا إشارة تكفي لتواصل سيارتنا طريقها إلى البيت،بيتنا الذي تنام فيه جثة محمّد.

لم أُسقط دمعة واحدة طوال اليوم. الناس كُثر وأنا لا أقدر على البكاء أمام جمهور. كما كان من الضروري أن أظهر ضابطاً نفسي ومستقيماً كرجل يستعد لدخول غمار حياة جديدة،رجل قادر على وضع جبال الدنيا على ظهره.

تركناهما منفردين،أبي وجثة محمّد، وأنا كمراقب. الناس في الخارج وصوت القرآن يرتفع بداخل البيت. أبي وجثة محمّد وأنا في نفس الصالة الواسعة التي كانت أخر بقعة على الأرض انطلق منها إلى المشفى وقد غاب عن الوعيّ بسبب وصول الحمّى إلى الدماغ. من هنا انطلق إلى المشفى وعاد إلى هنا،بعد ثلاثة أيام لكن على هيئة جثة.عندما خرج من البيت كان غير قادر على تمييز المحيطين به.لم يعرفني عندما ااقتربت منه.هي حالة من اقتربت خطواته من الموت. فيروز شقيقتي الصغرى والمشرفة على حالة محمّد كانت تعرف ولم تخبرني.

وضع بابا يده على رأس محمّد وراح مخاطباً إياه بصوت شبه مرتفع كان يصلني بوضوح. هو في الحقيقة كان يخاطبني أنا. خطاب أم عتاب أم تأنيب! كل هذا.
-   لِمن تتركني يا محمّد! من سوف يسأل عنيّ يا محمّد! من الذي سيقودني إلى مسجد صلاة الجمعة يا محمّد! من سيذبح خروف العيد يامحمّد!من سوف يحميني من الموت بعدك يا محمّد. مَن ومَن ومَن .. كل الأشياء التي لم أكن أفعلها وكان يفعلها محمّد.


ها أنّذا ، من اليوم ، أخلع ملابسي وأرتدي ثياب أخي محمّد.

(جزء من "كتاب محمّد" قيد الإنجاز)

الاثنين، 28 أكتوبر 2013

نادية الكوكباني: الرجل شرّاً مطلقاً

المرأة اليمنية هي كلمة السرّ لولوج رواية «عقيلات» (دار عبادي للنشر ــ صنعاء) التي تطرح قضيّة الأنثى وتحوّلاتها في مجتمع يحاصرها

تصدر نادية الكوكباني روايتها الثانية بعد ثلاث مجموعات قصصية، لتنضم بذلك إلى قائمة كُتّاب يمنيين هجروا القصة والشعر، وأقاموا في الرواية. «عقيلات» (دار عبادي للنشر ـــــ صنعاء) تأتي بعد «حب ليس إلا» (دار ميريت ـــــ القاهرة)، ويكاد يفصل بين العملين زمن قياسي، إذ لم يكد النقاش يهدأ في الأول، حتى كان الثاني في المكتبات. يعطي هذا انطباعاً أنّ مرحلة كتابة القصة للكوكباني كانت فترة تمرين طويلة ومقدمة لدخول الرواية. تبحث الروايتان في سؤال الأنثى وتحولاتها في بيئة غير متعاطفة معها. الأنثى المفرد في الأولى، والأنثى الجمع في الثانية. سرد لحكاية حب كلاسيكية في «حب ليس إلا». أنثى ـــــ صرّحت نادية مرةً أنها وضعت الكثير من قصتها الشخصية في بطلة الرواية فرح ـــــ تسير في مراحل متقلبة تكاد تطابق موضوعات أفلام الأبيض والأسود. تنجح الفتاة في التغلب على مصاعب الحياة ومعوقاتها واصلة إلى النهاية السعيدة، فيما نرى «عقيلات» وقد حملت تصاعداً في الحكاية وتطوراً على مستوى الوعي وانفتاحاً على الممنوع والمسكوت عنه في ما يخصّ العالم السري للنساء في اليمن. ونقصد هنا تحديداً أوساط الطبقة الاجتماعية الجديدة التي عرفت ثراءً سريعاً وغير مفهوم، ترتّب عليه ظهور سلوكيات قد تبدو طارئة على المجتمع اليمني المعروف بأنه محافظ في شكله العام. لكن ما نلبث أن نكتشف، في سياق الرواية، زيف هذه الصورة، لنلاقي أنفسنا أمام طبقة تجاهد لتبدو متماسكة ومحافظة، حريصة على بقاء قشرتها الخارجية لامعةً ونظيفةً، لكنها تذهب داخلياً في تحلّلها وتعفّنها. تقدّم «عقيلات» 19 حكاية على لسان الراوية روضة التي تقع في يديها مذكرات جود التي دوّنت فيها تلك الحكايات بطلب من أصحابها. وتطلب هذه الأخيرة من الأولى إعادة صياغة ما كتبته بإتقان. نجد روضة وقد راحت تحكي قصصهن راسمةً بورتريهات اجتماعية لنماذج نسائية منفصلة، لكن كل واحدة تؤدي إلى الثانية. نساء (متزوجات، مطلقات، معتقلات) يؤدين حياة في الضوء وأخرى في العتمة، فيما روضة تتلصّص عليهن من خلال الورق الموجود بين يديها وتسرده لنا. وهي حكايات يكاد الجنس يكون نقطة مشتركة بينها من خلال تموضعه كدافع لخيانات زوجية أو علاقات خارج إطار الزواج تُمارس في العتمة وبعيداً عن أعين الآخرين: زنى محارم، ومثلية جنسية، وتحرّش بأطفال داخل مساجد. لا نبذل جهداً كبيراً في اكتشافنا أنّ معظم هذه الحكايات حصلت في الواقع وتناولتها الألسن بعد نشرها في الصحف، وكان أبطالها أسماء معروفة لسياسيين ومثقفين وشخصيات عامة. ولم تبذل الكاتبة جهداً إضافياً في تمويهها. وبناءً عليه، ظهر بعضها كما لو كان كتابة لتقرير صحافي راصد لمشاكل اجتماعية، موثَّقاً بحالات حية حكايات تجتمع كلّها عند سؤال الجنس وواقعية، ما يتناقض مع مفهوم الرواية كعمل فني صرف له أدواته ومسبباته. وقد يؤدي بنا هذا إلى ملاحظة أخرى قد تفسر هذا الانتقاء الذي حمله العمل بخصوص تلك الوقائع، إذ يبدو واضحاً تعمّد إظهار الرجل شراً مطلقاً. لا وجود لنموذج ذكوري إيجابي واحد على امتداد الرواية. ولو افترضنا أنّ هذا الانتقاء كان يهدف إلى الوقوف عند العنف الذكوري المُمارس ضد المرأة، سواء من الأب أو الزوج أو الإخوة، إلا أنّ الكاتبة لم تنتصر تماماً للأنثى. بل أقحمتها في أحكام قيمية تأتي في خاتمة كل حكاية، إذ تنتقد فعل هذه وتصرّف تلك، من منظور أخلاقي بحت. إلى هذا، لم نجد تفسيراً منطقياً لتعمّد الكاتبة افتتاح كل فصل من روايتها بمقطع شعري أو سردي مقتبس، وموقّع باسم كاتبات يمنيات معروفات ومأخوذ عن أعمال منشورة لهن. أعطى هذا انطباعاً للقارئ أنّ كل حكاية تالية خاصة بهذه الأديبة، ما قد يضعهن تحت طائلة تفسيرات لا معنى لها. هذا التضمين الاعتباطي نفسه تكرر مع إضافة ملحق في نهاية الرواية ضمّ بيانات وتقارير صحافية عن حرب صعدة والحراك الجنوبي، فظهرت ثقيلة وزائدة وغير مبررة فنياً. كأنها تحاول أن تعطي بعداً سياسياً وإيديولوجياً للحكاية برمّتها. لا شك في أنّ «عقيلات» طرقت موضوعاً شائكاً في مجتمع مغلق غير متسامح، وخصوصاً في ما يتعلق بالمرأة. وبناءً عليه، كان ينبغي أن يُتعامل معه بحساسية أكبر وبحرص على عدم وقوعه في مرمى التفسيرات السهلة والمجانية.

"الأخبار" العدد ١٢٥٠ الجمعة ٢٢ تشرين الأول ٢٠١٠

حبيب سروري.. بين الوعظ والأدب


يأخذ حبيب عبد الرب سروري (1956) كثيراً من ذاكرة حياته وشريطها في رواياته. طوال هذا الشريط، نشاهد نتفاً من سيرته التي قضاها بين عدن الجنوبية اليمنية والمدن الفرنسية التي تنقّل فيها طوال حياته. غادر اليمن إلى تلك البلاد الباردة من أجل الدراسة، وحاز شهادة إجازة في التأهيل لقيادة الأبحاث الجامعية. ويبدو أنّ صاحب «دملان» لم يكن قادراً على كتابة روايته الخاصة، التي لا تتماسّ مع سيرته التي عاشها بين المدن التي عبَرها. كان عليه الانتظار طويلاً كي يكتب «تقرير الهدهد» (دار الآداب ـ 2012) ونكتشف أنّه أمسك أخيراً على مهاراته الحقيقية التي كرّسها لعمل فانتازي، تخييلي يبحث في التاريخ ويعتمد عليه في نقد هذا الزمن الحديث/ الحاضر الذي نقيم فيه. في «تقرير الهدهد»، يشتغل على فكرة تستند إلى استعادة «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، وإعادة تشكيلها على نحو يتماشى مع الأفكار التي يرغب الروائي في بعثها عبر حوارات «مقهى الكوكبة»، وهو المكان الافتراضي الذي ترتاده أهم الأسماء الفكرية والعلمية والفلسفية، التي فعلت ما كان لها على صعيد التاريخ البشري وصعدت بعدها إلى السماء: كارل ماركس، نيتشه، أبو العلاء المعري، داروين، يجلسون طوال الوقت في المقهى نفسه، ويتناقشون في أحوال البشرية والوضع البائس، وخصوصاً في المنطقة العربية، حيث تأخُّر البحث العلمي وهيمنة الفكر الأصولي الديني واحتقار كل ما له علاقة بالمدنية.

كل هذه الحوارات تجري تحت مراقبة «الأعلى جداً»، الذي يقرّر ابتعاث أبي العلاء المعرّي إلى الكرة الأرضية، وخصوصاً المنطقة العربية بغرض تقصي الحقائق ورفع تقرير نهائي عن الوضع هناك. هكذا، يكون النزول وقصة موازية أخرى تحكي سيرة أبي المعري ذاته. سرد يبحث في التاريخ بلغة طغت عليها نكهة الشعر. لا يمكن هنا إغفال اللعبة التي يسير عليها سروري، ولعبه على قصة «تقرير الهدهد» القديم، الذي كان قد جرى بعثه إلى الملك سليمان، لكن هنا لن يكون لملكة سبأ مكان، بل لحبّ أبي العلاء المعري القديم (هند) التي ذهبت من حياته بقرار مفاجئ منها من دون أن يعلم أنه قادر على الإنجاب، وأنّ له ابنة من هند سمّتها نور. لاحقاً، يدخل نبيل سليمان على خط الرواية (العمل مهدى إلى السوري نبيل سليمان). الروائي الذي ينحدر (في الرواية) من سلاسة أبي العلاء المعرّي، يحكي عن وراثته لمخطوط محفوظ في صندوق خاص من والدته. رويداً رويداً ننتقل من متاهة إلى أخرى، ومن قصة إلى أخرى.
يجد القارئ نفسه وقد دخل في مساحات كان ممكناً التخفف منها كالاستشهادات والاقتباسات الشعرية الكثيرة. ورغم نوايا الكاتب الحسنة، إلا أنّه حشا عمله بخطب وعظية تنادي بضرورة خروج العالم العربي من قيود التخلف من قبيل: «في بلد آخر، تُجلد المرأة إذا لبست بنطلوناً» أو «يفتي فقهاءُ بلدٍ آخر بترقيعِ غشاءِ البكارة، لمن فقدتْهُ قبل الزواج، لمغالطة الزوج!... متحف كوابيس!...» (المقطع مأخوذ حرفياً من الرواية بعلامات الترقيم نفسها). عند قراءة الرواية، نتذكّر الشرط الذي يقول بضرورة الفصل بين العمل الروائي المحكوم بشروط الكتابة المتخففة من كل شيء غير جماليات العمل الأدبي، والعمل الوعظي الذي يمكن كتابته في مقال... وحبيب سروري يجيد هذا النوع المقالي إجادة تامة، لكن ليكن بعيداً عن اسم الأدب.


"الأخبار" العدد ١٨٨٨ الجمعة ٢١ كانون الأول ٢٠١٢





جنس وأكاذيب وجهاد: حفريات علي المقري

بعد العنصرية والقيود الدينية والطائفية والعرقية التي تستبدّ بالمجتمع اليمني، ها هو الروائي والشاعر المعروف يضيء على الكبت الجنسي والزيف الاجتماعي في روايته الصادرة عن دار «الساقي»

اكتفى علي المقري في باكورته الروائية «طعم أسود رائحة سوداء» (2008) بنزع قشرة أولى عن واقع جماعة يمنية تعيش على هامش الحياة بسبب سواد بشرتها. رواية صادمة وضعت قراءها أمام حقيقة الألم الذي تعيشه تلك الجماعة في بيئة اجتماعية تحتقر اللون الأسود. في روايته الثانية «اليهودي الحالي»، نزع قشرة ثانية من واقع اجتماعي محكوم بقيود العرق والطائفة والدين عبر حكاية حب مستحيلة بين مسلمة وصبي من يهود اليمن. أمّا في روايته الجديدة «حُرمَة» (الساقي)، فنجد الروائي والشاعر اليمني وقد ذهب متمادياً في نزع القشرات، فلم يعد هناك أي شيء يغطّي الواقع الذي يحاول الجميع إنكاره رغم معرفتهم بأنه حقيقي يحدث فعلاً ولو وراء ستائر وجدران.

ولهذا، نجد المقري مُصرّاً على الذهاب بعيداً في فعل عمل روائي يعيد سرد حياة سريّة/ معلومة تخص مجتمعاً يعيش تحت وطأة الكبت والحرمان وأثقال رغبات لا تعرف حدوداً وشهوات غير قادرة على لمس انطفاءاتها لتجد في الدين حلاً، ولو موقتاً.
يرتكز الكاتب على أحوال فتاة لا نعرف لها اسماً طوال الرواية. مجرد حُرمة لا تستحق أن تمتلك اسماً: «لم ينادِني أحد في البيت باسمي، أمي تناديني: أميمتي، وأحياناً: أمي الصغيرة... فيما أسمع أبي يقول: يا بنت... أين البنت؟ أعرف أنه يقصدني».
بالتوازي مع هذه الـ«حُرمة» التي لا يحقّ لها امتلاك اسم ولا هوية ولا صوت، نجد شقيقتها الكبرى لولا التي تمتلك اسماً وحياة سرية خاصة بها و«أفلام بورنو» تخوض فيها بشراهة بتواطؤ أسرتها التي لا يهمها سوى الأموال التي تأتي من ابنتها الكبرى من دون السؤال عن مصدرها. إنه الفقر هنا وما يفعله في حياة اليمنيين، فالمهم أن لا ينكشف شيء ويبقى الأمر طي الكتمان.
وعليه، تسير حياة لولا، تقوم بإعادة تركيب (رقع) غشاء بكارتها؛ لأن مدير الشركة (ولي نعمتها) الذي تعمل معه يرغب بأن يجدها بكراً في كل مرة يدخلها. لكن عندما يتقدم بها العمر، يتركها الجميع لتجد نفسها مضطرة إلى إغواء أحد الشباب وجلبه إلى غرفتها في بيت والدها من طريق إلباسه زياً خاصاً بالنساء. يعود الأب من عمله باكراً بسبب وعكة ألمّت به، يسمع أصواتاً صاخبة آتية من غرفة ابنته، يفتح الباب الذي لم يكن موصداً ليجدها غارقة في لذتها: «كنت تعلم كل شيء وتتصرف كأنك لا تعرف» تقول البنت لأبيها.
في المقلب الآخر، كانت الـ«حُرمة» قد خاضت كثيراً في الحياة، لكن من دون تذوق لذاتها الكاملة. تُرغم على الالتحاق بمعهد سلفي لا يُسمح فيه بالاختلاط، رغم أنّه يضمّ محاضرين شيوخاً يعلّمون كيف «تكون المعاشرة الزوجية مليئة بالإشباع العاطفي». حالة تكاد تكون تكثيفاً لواقع هذه الجامعات الدينية التي تعيش كبتاً مضاعفاً داخل بيئة مكبوتة أصلاً. كبت يدفع الـ«حُرمة» إلى القبول بزوج (مجاهد) جلبه لها شقيقها، الماركسي السابق والأصولي الحالي، لكنّها تكتشف لاحقاً أنّها قد تزوجت عنيناً عاجزاً عن فعل شيء. يتواصل الحرمان بينما يتقدم الجهاد عندما تقرر الذهاب مع زوجها إلى أفغانستان لمحاربة «الملحدين الكفّار». إنّه استرجاع لوقائع سفر آلاف الشباب اليمنيين والعرب إلى أفغانستان أيام الاتحاد السوفياتي السابق. لاحقاً، تعود الـ«حُرمة» إلى اليمن بعدما عاشت أهوالاً وعبرت سجوناً كثيرة. لكنّها تعود من دون زوجها الذي وقع في الأسر. ويطول غيابه بينما يرتفع مستوى الرغبة عندها. يدفعها ذلك إلى أخذ «فتوى شرعية» تتيح لها الطلاق من الـ«بعل» الذي لا يُعرف مصيره. تتزوج ذلك الشيخ الذي أعطاها الفتوى، لكنّ ليلة واحدة كانت كافية لتعرف الـ«حُرمة» أنّ زوجها المفتي «لا يستطيع»، ليقع الطلاق فيما يواصل الحرمان تقدّمه والجنون أيضاً.
اللافت في الرواية أنّ علي المقري يسرد كل هذه الوقائع والحياة المكبوتة لأبطاله مع تركيزه على «حُرمة»، لكن من دون اللجوء إلى التنظير وطرح أحكام قيمية على تصرفاتهم. كأنّه أراد تبسيط تلك الحيوات المركبة وإعادة تركيبها بواقعية قصوى من دون الوقوع في التقريرية والمباشرة والوعظ، حتى في طريقة تعمده وصف العمليات الجنسية التي احتواها العمل بإفراط قد يجده بعضهم استفزازياً وفجاً. إلا أنّ هذا لا يحجب حقيقة أنّ هذا يحدث في حياة سرية يعلم الجميع بوجودها، لكن لا أحد يستطيع الكلام عليها بصوت مرتفع.


"الأخبار" العدد ١٧١٦ الجمعة ٢٥ أيار ٢٠١٢