السبت، 9 أكتوبر 2010

مقتنيات وسط البلد

عم ميكي .. وأنا


                                (1)
تضعني الكتابة عن شيء ما يخص مكاوي سعيد في مأزق دائم. في كل مرة أحاول أن أضع محبتي الشخصية له جانبا فأفشل. يستحيل عندي فصل كتابته عنه. لا أرى مكاوي ذاته مفصولا عن إنتاجه الأدبي. أدري أنه عيب فيني ولابد من فصل الشخصي حال الكتابة لكن ما حيلتي والرجل لا يسمح لك إلا أن تحبه.
ومدفوعا بهذه الحالة كنت في كل مرة أتقاطع مع مكاوي أو( عم ميكي، كما نسميه)  في مكان ما أود سؤاله مثلا عن شخصية المُدّرس بطل "تغريدة البجعة" أو انشراح في" ليكن في علم الجميع سأظل هكذا" أو الطفل الصغير في " شال أبي الأبيض"، سؤاله عنها بوصفها من لحم ودم وقد تقاطع معها ذات يوم أم أنها من عنده ومن خياله؟ و أكون معذورا هنا بالفعل إذ لا يستطيع عقلي الصغير تصديق أن هذا العالم الفسيح الذي يقوم بنسجه مكاوي من اختراعه. أيُّ دماغ تقدر على خلق كل هذه الكائنات البشرية وتضعها على أرضية واحدة متلاعبة بمصائرها على ذلك الشكل المدهش والرائق..و المحزن. و مسنودا بتلك الافتراضية بقيت قارئا لمكاوي سعيد. أتتبعه وكأن بي رغبة دفينة لتأكيد فرضيتي وأن كل هذه الشخصيات البشرية الهائلة التي يقدمها لنا لا يمكن غير أن تكون قد مرت عليه وخالطها. هو تفكير عبيط، أعرف لكنه لاحقني ولم يدعني لهدوء بالي.
                                (2)
لم أجد، بالطبع تأكيدا لما وددت إثباته كما لن أجد وذلك لسبب بسيط لكنه هام وحاسم؛فشخصياته في الرواية وستبقى فيها وليس لنا أن نأخذها كما هي بلا أسئلة تبحث عن كونها حقيقية من عدمه. وهو ليس مجبورا كي يفصح لنا عن واقعيتها أو أنها متخيلة. ليس لنا غير القراءة والاستمتاع فقط. لكن مكاوي سعيد ومن حيث لا يدري قدم لي فسحة أخرى يمكنني فيها وبراحة بال ممارسة هوايتي في تقصي واقعية شخصياته من عدمها. كتابه الأخير"مقتنيات وسط البلد"، (دار الشروق-القاهرة،الطبعة الثانية،يونيو2010) قدم لي ما أريد فاعلا إمكانية ذهابي متقصيا شخصياته،الحقيقية هذه المرة وتتبع حط مسار حياتها في وسط بلد القاهرة.
(وصلني الكتاب قبل أيام محمولا بيد صديقة عزيزة تعلم مدى عشقي للكتابة التي يصنعها مكاوي سعيد فحضرَتْ حفل توقيع له وأخذت نسخة مهداة لي. وعليه امتلكت نسختين منه. لم تكن تعلم أني قد امتلكته نسخة سابقة وعليها توقيعه أيضا ووصلتني في رمضان عن طريق صديق. أخبرت مكاوي بالمصادفة التي وقعت معي فلم يتذكر غير توقيعه على النسخة الأولى وبرر نسيانه باحتمال إصابته بزهايمر مبكر، وضحكنا).
                                 (3)
في "مقتنيات وسط البلد" يقوم مكاوي بتسجيل حكاية 41 شخصية مرت على هذا المكان الشهير،امتلكت مواهب حقيقية وفذة لكن زحمة الحياة وقسوتها لم تتح لها أن تظهر وتكون في الواجهة فسُحقت تحت عجلات قطار سريع لا يرحم ولا يعطي اعتبارا لأحد. ولهذا فهو يقوم بعمل مايشبه التحية لهم ودليلا على أنهم مروا من هناك وعبروا المكان ولم يأخذوا حقهم منه، منهم من انتهى ومنهم من هاجر ومنهم من وقع في الجنون. ويأتي هذا التعاطف الواضح من قبل مكاوي تجاه هذه الشخصيات لاعتقاده أنه في الأساس واحد منهم وربما كان سيصبح واحدا من المقتنيات ومكتوبا بقلم أحدهم ربما التقط فكرة الكتاب لولا أن رياح الشهرة قد دقت على بابه وأخذته إلى المقلب الآخر من منطقة وسط البلد وذلك بعد الانتشار الذي حققته "تغريدة البجعة". واللافت أن فكرة كتاب المقتنيات قد سبقت كتابة التغريدة وتحديدا في العام2002 حيث قرر كتابة قصص قصيرة عن تلك الشخصيات التي ماتزال تسكن ذاكرته وإن بشكل غير دقيق لكنه سيستعيض عن هذا بالاعتماد على خياله ما يمنحه فرصة لرسم شخصيات تقدر على استمالة القارئ وانتزاع تعاطفه وميله إليها. ولم يكن هذا سيتحقق بشكل كامل ومتقن بدون كتابة تفاصيل عن الأمكنة التي مرت عليها هذه الشخصيات، ولكن المشكلة أن معظم تلك الأماكن قد تغير أو اختفى أو فقد روحه الأصلية من مقاه وبارات ومطاعم ومنتديات ثقافية ازدهرت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فكان لابد من كتابة شروحات إضافية في الكتاب لها أن تصف بدقة البيئة التي كانت تحتوي هذه الشخصيات. ولما كان هذا الاقتراح سيعمل على إزعاج القارئ بمتابعة الهوامش في نهاية كل قصة أو صفحة فرأى مكاوي أن يقسم الكتاب إلى قسمين؛ واحد أسماه"كتاب البشر" في حين حمل الثاني اسم"كتاب المكان".
                              (4)
وعلى هذا يكتب مكاوي سعيد" مقتنيات وسط البلد" باعتباره واحدا من أمراء وسط البلد، حد وصف جريدة "الأهرام" القاهرية له. يكتب من موقع الحب والعاشق لهذا المكان والمرتبط به وبناسه ارتباطا وثيقا لم تقدر قسوة الأيام الحاضرة على خلخلته أو وضعه محل شك أو ارتياب. يكتب بعين لاقطة لشخصيات لم تلفت اهتمام أحد،كانت تمارس سيرها بانتظام على مساحة المكان. يكتب ربما بحزن على ما صار إليه وعلى نهايات أبطاله الحقيقيين، بشجن، ولكن ليس بحنين مريض قد لا يجعله يستبين الصورة القديمة تماما ويعمل على إعادة الحياة إليها وإظهارها للنور منتزعا إياها من عتمتها. وهو بهذا ينجو من مسألة وقوعه في حالة قد تجعله يعمد إلى وضع تلك الشخصيات في منطقة مقدسة لا يصح الكتابة عنها بسوء أو بيان نقيصة وهنات كثيرة، سواء في السلوك أو التحولات التي حصلت لها. منها شخصيات يسارية راهنت لوقت غير قصير على مشروعها المدني والتحديثي لكنها انقلبت تماما على كل هذا لتقبل بالفتات وصارت قابلة للبيع بأي ثمن.
ويكتب مكاوي غير باحث ولا ناو فضح شخصياته، بشكلها الذي ظهر في الكتاب،ووضعها في دائرة التعريض والسخرية وجعلها في متناول التندر بسبب غرابة الحياة التي عاشتها.هي بالفعل حكايات قد تستفز الضحك فيك لكنك لا تضحك. تبقى فقط في منطقة التأمل والدهشة وربما الحزن من أجلها.على العكس تماما من فكرة السخرية. يتعامل مكاوي مع نحو 41 شخصية بمنطق التعامل مع مقتنيات ونادرة وقعت بالصدفة في خزانة الإهمال فجار عليها الوقت ولم يعمل حسابا لها فطمرها بترابه. وعليه عمل مكاوي على إزالة هذا التراب عنها وعرضها بشكل يليق بها ومن ثم وضعها في الواجهة كي تأخذ حقها من الاهتمام ولو بأثر رجعي.
                                (5)
وعن المكان الذي يحتل مساحة الثلث الأخير من الكتاب نرى تقسيمات و تعاريف لوسط البلد بتكوينه الفرنسي الذي أتى راضخا لرغبة الخديوي إسماعيل في أن يكون قطعة من باريس وقد راودته الفكرة عندما كان طالبا هناك. وبالفعل، عند وجودك في المنطقة وفي وسطها تحديدا ستراها نسخة قد تكون مطابقة لمدينة النور، لكن مع فارق أساسي يتمثل في الروح التي تحضر هنا وتغيب هناك. مسألة البشري الذي يتكون من لحم ودم وتشعر بأثر حركته على المكان خصوصا في ميدان طلعت حرب و الحميمية الفائضة التي تنبعث منه وتنعكس على ملامح العابرين عليه من شارع الفلكي إلى شارع قصر النيل وطلعت حرب باشا وشارع منصور والبستان الذي كان عليه قصر البستان وتم هدمه ليتحول إلى جراج متعدد الطوابق.
شارع عبد الخالق ثروت وشارع عماد الدين المشهور بمراقصه ومسارحه ودور السينما وصالات الغناء. وعلى هذه الشوارع تنتشر المقاهي التي ميزت المنطقة، مقهى سفنكس بشارع طلعت حرب أمام سينما راديو ومقهى الحرية الذي كان نقطة لقاء مشاهير كبار مثل محمد عبد المطلب وتحية كاريوكا وبشارة واكيم والشاعر كامل الشناوي ورشدي أباظة وأنور السادات وأحمد رمزي وشكري سرحان. ولا يزال هذا المقهى باقيا ولم يتعرض للإزالة والمحو وذلك نظرا لعدد الورثة الكبير الذين سوف يحصلون على مبالغ تافهة في حال بيع المقهى بعد تقسيم مبلغ البيع في حين يحصلون حاليا على مبالغ يومية ترضيهم.
مقهى زهرة البستان الذي يعتبر المقر الرئيسي لمكاوي سعيد وعلى أي راغب في لقائه عليه الانتظار هناك فحتما سيظهر مكاوي ولو بعد حين. وعرف هذا المقهى أسماء كبيرة مثل نجيب سرور ويحى الطاهر عبد الله وعفيفي مطر و الغيطاني ثم جاء إليه عدد من الجيل السبعيني انسحبوا من مقهى ريش الذي يقع في الجهة المقابلة منه نظرا لتردي خدماته وتمييزهم لفئة من الزبائن عن الأخرى. ومقهى ريش كان له حديقة واسعة وتمتد إلى ميدان طلعت حرب الآن. كانت تعقد فيه ندوة نجيب محفوظ منذ عام 1963 عصر كل يوم جمعة. في الفترة الأخيرة صار مكانا طاردا للمثقفين الذين استمد سمعته من تواجدهم عليه" والأجانب مرحب بهم جدا داخل هذا المكان، لكن المثقفين الذين استثمر الملاك المكان باسمهم يعاملون بإهمال واستخفاف..هذا ما انتهى إليه هذا المكان الجميل". بالمقابل هناك بالقرب منه كافتيريا الجريون بجوار مسرح قصر النيل وهو الآن من أبرز الأمكنة التي يلتقي فيها المثقفون ويتمتع بألفة حلوة ورحابة لا تجد صعوبة في التمييز بينها وبين ما تلاقيه في ريش.

مكاوي سعيد.. أو ميكي

خجول ولا يمكنك أن تأخذ من غير جملة سريعة ردا على كلام قلته أنت في خمس دقائق معترفا أنه يهاب الناس بطبيعته الخجولة.يسير في شوارعه المعتادة بتردد ورهبة كأنه يمشيها للمرة الأولى. يعترف أن" شوارعي" ليس له علاقة طيبة بعادة البقاء في البيت لفترات طويلة.
ولهذا تأخذ المقاهي نصيبا حلوا من وقته ولهذا لا تجد صعوبة في العثور عليه لو كنت في زيارة للقاهرة فيكفي أن تمر على مقهى زهرة البستان الشهير وتجلس هناك لفترة غير طويلة من الزمن فلابد أن يأتي مكاوي مار من هناك. وهو غير متكلف بطبعه. تجده قادرا على خلق علاقة سريعة مع الناس أيا كانت مستوياتهم الاجتماعية فالكل سواء عنده. يبدو موهوبا هنا كما هو موهوب في الكتابة البسيطة المتينة التي لا تجد صعوبة في مخاطبة القارئ العادي  ولكنها تعمل في داخله الكثير.
أصدر مجموعة قصصية"الركض نحو الضوء" 1981ورواية"فئران السفينة"1991 ثم مجموعة" راكبة المقعد الخلفي"في 2001. بعدها بسنة بدا في كتابة"مقتنيات وسط البلد" لكنه توقف لكتابة" تغريدة البجعة" فترة استمرت لما يزيد عن ثلاثة أعوام. إلى ما قبل صدورها كان يسير هادئا دون أن يلاقي إيقافا من معجبة أو معجب وبلا يقين من إمكانية تحقق أي شيء ومترنح في مرات بين حلم أن يصير كاتبا شهيرا وبين أن لا يكون شيئا بالمرة. عندما كتب" التغريدة"كان واثقا من شيء واحد فقط؛هو أنه قد كتبها بشكل رضي عنه بشكل تام مقتنعا أنه سيلاقي قبولا ما،لكن أبدا لم يكن يتوقع أن تحصد كل هذا النجاح الذي لاقته وما تزال" لم أكن أتوقع هذا النجاح المذهل بالنسبة لي، لهذا كان لابد أن أهدي هذا الكتاب للقراء، فلأول مرة في حياتي يقابلني أناس في الشارع يستأذنونني أن يشتروا الرواية لأوقع عليها، أو أن استقبل تليفونات من قراء عاديين، أو أن تأتيني قارئة تصر علي أن أوقع لها علي فقرات معينة في الرواية أثرت فيها تأثيرا كبيرا وهكذا". صدرت الرواية في طبعات متوالية وفي طبعة شعبية خاصة.وكانت صعدت لمرحلة القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية وتنافست مع رواية" واحة الغروب" للكبير بهاء طاهر.
قال مرة للزميل سيد محمود أن «الشهرة سمحت لي بالمقاوحة» وفرض الشروط وهي فرصة لن أتركها، فاليوم صار لقب «الكبير» يتبع اسمي بينما كنت قبل شهور «الكاتب المجهول» لكنّ اللقب الجديد لا يعكّر مزاجي، ولا مزاج أصدقائي، فما زلت الشخص نفسه، متمسّكاً بطقوسي كلّها، ما تغيّر فقط أنّني أستخدم التاكسي بدلاً من الباص، والكتّان بدلاً من الجينز. أما لقبي الجديد فأستخدمه فقط في مواجهة كل من أتعب قلبي زمان. فالشهرة يا صديقي مجرد حجر رُفع من مجرى النهر الذي ظل مسدوداً لسنوات، اليوم فقط صار ممكناً أن تخصّص مجلة أدبية مثل «الثقافة الجديدة» عدداً كاملاً عن أعمالي، بينما كانت هيئة تحريرها قبل عام تلوّعني شهوراً لتنشر لي مجرد قصة قصيرة».
نُشر هذا المقال بجريدة "الثوري" اليمنية عدد يوم الخميس7 أكتوبر 2010