الخميس، 27 يونيو 2013

نيلسون مانديلا ..

جمال جبران

(1)
صباح أحد أيام الاسبوع الماضي، احتفل نيلسون مانديلا بعيد ميلاده الرابع والتسعين. الرجل الأيقونة والرمز ودع عاماً واستقبل غيره في عصره المديد وسجل رقما جديدا في اليوم الذي اختارته الأمم المتحدة كي يصبح "يوم نيلسون مانديلا العالمي" لـ"مساهمته في حل النزاعات الدولية وتشجيع العلاقات بين الأعراق وحقوق الإنسان ‌ "، ولاعتباره ‌"من أعظم الزعماء السياسيين والأخلاقيين في عصرنا ‌ ".

ولنيلسون مانديلا يحتفل العالم ويرقص الناس في الشوارع. والرجل يستحق هذا وأكثر وهو الذي تأكل في سجنه سبعة وعشرين عاما . (رقم ثقيل هو ويجعل البطن ثقيلة وعاجزة عن فعل شيء. أن تكون في السجن كل هذا الوقت والعمر الطويل ليس نزهة أو إجازة سنوية. هي حياة كاملة وقد تشكلت رقما كبيرا قبالتك كلوحة أو صورة معلقة على الدوام فأين تهرب منها؟ 27 ‏عاماومنزوعة من سجلك الشخصي. عمرك كله ناقصا هذا الرقم. يعنى أنك لم تعش سبعة وعشرين عاما، أنها سرقت منك ولم يعد أمر استعادتها ممكنا).
لكن الأمر يختلف عندما يكون الحلم خلف النافذة. أنت في السجن سبعة وعشرين عاما لكن الحلم خارج السور المرتفع وتنظر إليه صباح مساء وسنة تلو أخرى. الحلم ويقترب مع ذهاب الرقم في تصاعده والأيام في تواليها. الحلم وهو يغدو حقيقة ممسوكة باليد
‏(2)
‏ويعيش نيلسون مانديلا اليوم كطفل مدلل نجح في اختباراته المدرسية وتحصل على شهادة تفوقه. كأن العالم يقدم اعترافه وامتنانه لهذا الرجل، الرمز الذي جعل من حياته نموذجا في العزيمة وقوة الإرادة والرغبة في تغيير واقعه إلى مساحة أخرى لا تكون مرتبطة أبدا بما كان. الحياة التي يعيشها الآن تقول بهذا، إضافة للفعل الذي قام بصنعه عقب خروجه من السجن الطويل والممتد على مسافة سبعة وعشرين عاما رافعا راية التسامح والأخوة نابذا كل ماله علاقة بالعرقية والتعصب والاحتراب. من ينظر لجنوب افريقيا كيف كانت وكيف صارت سيعرف تماما أثر الفعل الذي صنعه مانديلا وما الذي صار يمثله في قلوب مواطني جنوب إفريقيا حتى أنهم لا يقدرون حتىمجرد التفكير أن جنوب إفريقيا ستكون بدونه في حالة ما حدث له شيء. ومن الوقائع شديدة الدلالة فيما يخص هذه النقطة، ما حدث قبل أيام ويمكن تلخيصه في موجز الخبر التالي "أدان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في جنوب أفريقيا رسما صور جسد الزعيم الأفريقي، نيلسون مانديلا وهو ممدد فوق طاولة ‌ ".
وأضاف الحزب أن العمل الفني الذي يتم إكماله في مركز تسوق بجوهانسبورغ ينتهك كرامة مانديلا. واللوحة.. تصور مجموعة من طلبة الطب يتحلقون حول طبيب يقوم بتشريح إحدى الجثث.
وتبين اللوحة الفنية جسد مانديلا وهو يخضع للتشريح في حين يحتشد حوله زعماء بارزون. لكن الفنان ييول داماسو، الذي رسم اللوحة قال إن هدفه هو جعل الناس يواجهون فكرة الموت.
وأضاف قائلا، "مانديلا رجل عظيم لكنه يظل رجلا لا أكثر، موته في نهاية المطاف حقيقة ينبغي أن نواجهها سواء كأفراد أو كشعب" إن ألحديث عن موت مانديلا من الممنوعات، وينظر إليه على أنه يخل بالاحترام الواجب للزعيم الرمز لجنوب أفريقيا ومواطنيه الذين لا يتحدثون علانية عن احتمال موته وذلك احتراما له وربما خوفا من قبول حقيقة أنهم قد يجدون أنفسهم يوما ما بدون مانديلا.
‏(3)
‏وعليه لا جديد اليوم في كل ما يحدث له من احتفاء وتكريم. كأن العالم يترقب فقط التقاط أدنى فرصة أو مناسبة للاحتفاء به. تاريخ ميلاده. اليوم الذي دخل فيه السجن. اليوم الذي خرج منه. اليوم الذي تولى فيه الرئاسة. اليومالذي رفض فيه الترشح ثانية للحكم. اليوم الذي تم فيه إعلان فوز جنوب إفريقيا بشرف تنظيم بطولة كأس العالم من أجل عيون نيلسون مانديلا. (كما هو معروف، أن لمسألة الفوز بشرف تنظيم كأس العالم شروط صارمة وإمكانيات لا بد أن تكون متوافرة، ليس المادية منها فقط، بل ما هو أبعد من المادي. وجنوب إفريقيا كانت تعاني من عدة إشكاليات لو كانت حاصلة في بلد ثان غيرها لما كان لها شرف الفوز بتنظيم البطولة، ولكنها عيون نيلسون مانديلا التي لا يجد أصحاب القرار قدرة على رؤيتها حزينة ومكتئبة بعد كل الذي كان معها في سنوات السجن وما قبله. فجنوب إفريقيا تعد من أكثر البلدان في العالم في نسبة ارتكاب الجرائم حيث تصنف من البلدان غير الآمنة. جرائم قتل وسرقة بالإكراه واغتصاب ودعارة. لكن وعلى الرغم من كل هذه الأرقام والنسب المخيفة وافق
العالم على إقامة البطولة هناك. كأن القائمين على أمر الكأس أرادوا أن يقولوا: ‌ "رغم كل شيء ستكون بطولة كاس العالم في جنوب إفريقيا من أجل عينيك فقط يا نيلسون ‌ ". وكان أن نجحت البطولة، بطولة مانديلا، نجاحا باهرا ولافتا. كأن كل شيء كان يتأمر من أجل إنجاحها كي يرتاح بال هذا المانديلا.
‏(4)
‏وهناك ما هو أبعد من كل هذا. تكريم من نوع أخر. تكريم مختلف يثبت و يدوم طويلا ليراه الناس في كل أنحاء العالم. هو الاحتفاء بنيلسون مانديلا سينمائيا.بداية من فيلم "وداعا بافانا ‌ " (انتاج عام 2007 ‏، إخراج بيلي أوجيست والذي يحكي السيرة الحقيقية لسجان أبيض البشرة تم تكليفه بمهمة مراقبة مكالمات ورسائل نيلسون مانديلا في سجنه وكيف تحولت العلاقة بينهما، من سجان أبيض يود لو أعدموا هذا السجين الأسود الليلة قبل الغد، إلى علاقة صداقة من نوع خاص). وصولا إلى فيلم " Invictus " وتعني باللاتيني‌ "الرجل الذي لا يمكن قهره ‌ ". ولهذآ الفيلم ظروفه:
مكث الفنان الأمريكي الأسود الجميل مورغان فريمان وقتا طويلا في البحث عن قصة فيلم تليق بصديقه الأثير نيلسون مانديلا تكون بمثابة هدية له بمناسبة ذكرى إطلاق سراحه (وهو الذي كان يعلن على طول أن أمنية حياته هي تجسيد شخصية مانديلا سينمائيا). ومر وقت طويل حتى يجد هذا الممثل الفائز بجائزة أوسكار أفضل ممثل ثان
عن فيلم ‌ » مليون دولار بيبي ‌ »، رواية ‌ » ملاعبة العدو ‌ « لجون كارلين فلم يتأخر بالذهاب بها إلى كاتب السيناريو الجنوب أفريقي أنطوني بيكهام كي يجعلها صالحة للتنفيذ. حينها لم يكن متبقيا سوى قيام فريمان بإبلاغ صديقه المقرب كلينت استوود، المخرج والممثل الأبرز، إبلاغه أن قد وجد ضالته أخيرا. (وزيادة في توضيح رمزية مانديلا، تم بدأ التصوير في 11 ‏يوليو، يوم ميلاده، على أن تبدأ العروض الرسمية له في الذكرى العشرين لإطلاق سراحه من السجن، وهو ما كان).
بطبيعة الحال لم يكن اسم الرواية ‌"ملاعبة العدو ‌ " صالحاً كي يروي سيرة شخص قد تجرد من الأعداء في حياته. ولهذا كان من الضروري إيجاد بديل ملائم وموجز له أن يقول حياة في مفردة وقد كانت مغردة "أنفيكتوس‌ " وهي مأخوذة من قصيدة مكتوبة العام 1875م ‏من قبل الشاعر الانجليزي وليم هنلي، كان مانديلا يحرص على ترديدها في سجنه الانفرادي وتقول في بعض من أبياتها:
‏"لا يهمني مدى ضيق البوابة / ولا قسوة العقاب المكتوب على المخطوطة / فأنا قائد مصيري / وأنا سيد روحي"
‏وهي القصيدة التي أعطاها في العام 1995 أثناء استضافة جنوب أفريقيا لبطولة كأس العالم للعبة الرجبي، أعطاها لقائد فريق بلاده، الأبيض البشرة والمنتمي لعائلة عنصرية لها موقف نهائي من مسألة تطبيع العلاقات مع السود، وقال له‌ "أريد أن تفوزوا بكأس العالم".
(5)
‏الفيلم، باختصار، يتخذ مساراً منتظماً. بداية من خروج مانديلا من السجن. استضافة جنوب أفريقيا لكاس العالم للرجبي ومانديلا على رأس السلطة. الانتصار لقيم الجماعة الواحدة التي ناضل الرجل من أجل تحقيقها. ولماذا لعبة الرجبي بالذات؟ لأنها اللعبة التي عرف البيض في جنوب أفريقيا باحتكارهم لها وهو ما دفع بنقمة السود عليهم. حتى أنهم كانوا يقومون بتشجيع أي فريق يلعب في مواجهة منتخب بلادهم المفترض. من عنا التقط مانديلا الخيط. الرياضة باعتبارها مساحة خصبة يمكن عليها زراعة مفاهيم وقيم جديدة لها أن تعمل على توحيد المشاعر الوطنية تجاه بلاد واحدة هي بلاد الجميع وعليه من خلالها إظهار أنه رئيس الجميع وليس للسود وحدهم.

الأربعاء، 26 يونيو 2013

بين سجن الجسد وسجن الطبقة واللون: «غير قابل للمس»... ولا للتصنيف


تصدّر شريط أوليفييه نقاش وإيريك توليدانو شباك التذاكر الفرنسي لعشرة أسابيع متواصلة، متقدماً على إنتاجات هوليوودية ضخمة. قصّة حقيقيّة ذات أبعاد إنسانيّة، تتجاوز موضوع العنصريّة
جمال جبران
إنّه سؤال العنصرية مجدداً! هذا ما يوحي به للوهلة الأولى ملصق الفيلم الفرنسي «غير قابل للمس». وجهان يحتلّان كامل مساحة الملصق: واحد لشاب أسود (عمر سي) مبتسماً، وإلى جواره في وضعية الجلوس رجل أبيض (فرانسوا كلوزيه) مع الابتسامة ذاتها، فيما الاثنان ينظران إلينا. ما يدفعنا إلى التساؤل: هل خرج قرابة 20 مليون فرنسي تقريباً ـــ هم عدد من شاهد الشريط حتى اليوم ـــ كي يغوصوا في نقاش مستحدث حول العنصرية، محاولين نسيان أزمة بلادهم الاقتصادية الخانقة؟ سؤال مشروع على اعتبار أنّ ملصق أي فيلم يمثّل العتبة الأولى والمدخل الافتتاحي إليه.
ليس هذا فقط. يَفتح الشريط الذي أخرجه الفرنسيان أوليفييه نقاش وإيريك توليدانو، على مشهد متوتّر، حيث يقود الشاب الأسود إدريس، سيارةً حديثة، بسرعة جنونية وإلى جواره فيليب، ذاك الرجل الأبيض. توقفهما دورية للشرطة، ليتكرر المشهد المعتاد في السينما الغربية: شاب أسود في قبضة رجال شرطة بيض: «أخرج يديك من جيبك واتركهما في وضع مرئي، استدر إلى الخلف»، لكن يبدو أننا كنّا نحتاج إلى التوغّل أكثر في أحداث الشريط، كي نكتشف أنّ فكرتنا المسبقة كانت خاطئة، وأننا أمام قصة ذات نفَس إنساني مؤثر. فيليب، الرجل الثري والمصاب بشلل كلي، بعد تعرضه لحادثة سقوط أثناء ممارسته هواية الطيران المظلّي، يبحث عن مساعد شخصي له. يتقدّم شبابٌ كثر لشغل الوظيفة، لكنّ فيليب يقع على إدريس الخارج من السجن حيث كان يقبع بتهمة السرقة. نكتشف لاحقاً أن اختيار الرجل لمساعده الشخصي، لم يكن مدفوعاً برغبته في إبداء أي تعاطف فوقي مع السود. هو في حالة لا تسمح له بممارسة ذلك الترف. لقد اختاره ببساطة لأنّه رأى فيه شيئاً مختلفاً عن الآخرين الذين تقدّموا للوظيفة: اختلاف في الروح، وفي طريقة التعامل مع التفاصيل، ومع الحياة... فيليب غير القادر على تحريك أطرافه، كان يبحث عن شخصيّة مختلفة، لعلّها تكون قادرة على إخراجه من رتابة الحياة الجامدة التي يعيشها على كرسي مدولب. فهو غير قادر على تحريك أصابعه، أو حتى على النظر من النافذة. إدريس الشاب النشيط، المفعم بالحيويّة والحياة، يحمل إلى حياته احتمالات جديدة، تختلف عن اهتماماته الباريسيّة المترفة، مثل الفنّ التشكيلي والأوبرا. تنشأ بين الاثنين صداقة قوية يفسرها فيليب للمقربين منه بأنّ إدريس هو الوحيد الذي يتعامل معه بعفوية خالية من نظرات الشفقة التي يعدّها مهينة. يخرج إدريس صديقه الجديد من دوّامة الملل، وينتشله من الخجل الذي يشعر به إزاء إصابته، ويدفعه إلى التواصل وجهاً لوجه مع امرأة كان يراسلها لسنوات.
تتحسّن حياة إدريس من الناحية المادية، وحياة فيليب من الناحية المعنويّة. كلّ ذلك في إطار فكاهي، يصوّر علاقة متكافئة بين صديقين، قد لا يخضع تماماً للانتقادات التي طاولت الشريط، على أساس أنّه يعمل على تكريس فكرة الرجل الأبيض الذي يقدر بماله على تغيير حياة «العبيد». لا يحتمل «غير قابل للمس» مثل هذا النقاش الثقيل. بكل بساطة، يخرج إدريس من الضواحي الفقيرة، ليدخل في حياة جديدة في أحد أحياء باريس الراقية. هناك، ينجح بإخراج فيليب من سجن جسده المشلول، إلى حياة جديدة لم يكن يعتقد أنه سيقدر على عيشها مجدداً. العمل مقتبس عن قصّة حقيقيّة، أخذه المخرجان عن وثائقي يروي حياة رجل الأعمال الفرنسي فيليب بوزو دي بورغو الذي أصيب بشلل تام، وعلاقته بمعاونه ذي الأصول الجزائرية عبد الياسمين سللو. القصّة بأبعادها الإنسانيّة، نجحت في تحويل «غير قابل للمس» إلى أحد أهمّ النجاحات التجارية في تاريخ السينما الفرنسيّة. وليس مصادفة أن العمل السينمائي الوحيد الذي يضاهي «غير قابل للمس» في تاريخ شباك التذاكر الفرنسي هو La grande vadrouille لجيرار أوري (1966) الذي يحكي قصة صداقة غير متوقعة تنشأ بين شخصين غير متكافئين في باريس الحرب العالمية الثانية أثناء الاحتلال النازي. ولعل العامل السوسيولوجي يؤدي دوراً في تفسير ولع الناس بهذه الأعمال الفنية، التي تروي قصصاً مؤثرة تتسم بالسخاء الإنساني، وخصوصاً في أوقات الأزمات التي تزداد فيها المخاوف من اتساع هوة الخلافات ذات الطابع المذهبي أو العرقي.
___________________________________________
نُشر في جريدة "الأخبار" اللبنانية عدد الاثنين ٢٣ كانون الثاني ٢٠١٢

الثلاثاء، 25 يونيو 2013

يامرحباً بــ .. القتل الرحيم


يظهر موضوع القتل الرحيم بقوة في فيلم "فتاة المليون دولار" انتاج (2004) ومن إخراج البديع كلينت استوود، يظهر هذا الموضوع مُعبرَاً بشكل فاتن عن جدوى الذهاب لخيار القتل الرحيم. هذه المسألة الشائكة التي لم تُحسم حتى اليوم. حصل الفيلم على أربع جوائز أوسكار؛ أوسكار لهيلاري سوانك كأفضل ممثلة، أوسكار أفضل مخرج، أوسكار أفضل فيلم، وأوسكار أفضل ممثل مساعد للأنيق فعلاً الأسمر مورغان فريمان.
عندما استلمت هيلاري سوانك جائزة الأوسكار قالت:" لا أدري ماذا فعلت كي أستحق جائزة أوسكار". لكن هي تمزح هنا. من شاهد الفيلم يعلم جيداً لماذا أجمع الحكّام على مسألة استحقاقها ذلك التمثال الذهبي الذي يتمناه كل العاملين في السينما.
عاملة شابة فقيرة في احد مطاعم الوجبات السريعة تريد أن تصبح ملاكمة كي تكون قادرة على الخروج من حالة الفقر والحياة الرديئة التي تعيشها مع أسرة معدمة وغير نزيهة. تسير في طريقها بصبر ويقبل كلينت استوود تدريبها على مضض وكذلك  يفعل مورغان فريمان. هما قد مرّا على هذا الطريق ويعرفان نتيجته. هما لا يريدان لها أن تعيش ذات القصة وتلك الآلام وإن كان بشكل مختلف. لكن كل الطرق يبدو أنها تؤدي إلى الألم.
تنجح الفتاة سريعاً ويلمع نجمها لكنها تنتهي فجأة بعد أن تسقط على أرضية الحلبة وهي تلعب مباراة حاسمة لها. تتحول إلى فتاة مقعدة لا تقوى على الحراك في حين يبقى استوود دليلها في الحياة. يقرأ لها ويصف الأشياء التي تجري في الخارج.
هي تسمع فقط وتبتسم. ليس هذا مايحدث في داخلها. لا بد للصبر أن يصل حدوده. تقطع لسانها بأسنانها، وتبلعه، تمرره إلى داخلها. لن تعود قادرة على الكلام أو حتى قول كلمة" ألم"، تلك الكلمة التي كانت تقولها إمانويل ريفا في فيلم "حب" لمايكل هاينكي.
وكانت قبل هذا تمهد لما يجب على كلينت استوود فعله من أجل راحتها. تخبره أن والدها كان لديه كلب مريض، قرر أن يأخذ بندقيته ويأخذ الكلب المريض وان يذهب إلى الغابة " وعاد والدي من دون الكلب".
لا شيئ غير رصاصة واحدة وتكون الراحة الأبدية والخلاص من الألم الكبير. لكن هنا سيكون الأمر مختلفاً. الهدف نائم على سرير وجسده موصول بأنابيب شتّى تصله بسوائل كثيرة لها أن تمكنه من البقاء على قيد الحياة. من سيقوم بإيقاف ذلك السيلان!
من سيكون قادراً على إطلاق صافرة النهاية تماماً كما يحدث في المباريات الحاسمة.
من سيكون قادراً على إعطاء كائن حياة أخرى أفضل وأقل تعاسة من الحياة التي يقيم عليها الآن!
من سيمتلك القدرة على ضغط الزر الذي في مدخل الغرفة ويتحول المكان إلى عتمة تامة بمجرد الضغط عليه!
من سيفعل وضع الكتاب الكبير،بعد إغلاق غلافيه على الرف وإبقائه في الأرشيف!

ذهب الرجل مع الكلب المريض إلى الغابة، خرجت رصاصة إلى الهواء وصعدت الروح إلى فوق، في حين عاد الرجل وحيداً إلى منزله من غير.. روح. 
__________________
مقال منشور في عدد الخميس 27 يونيو 2013- جريدة "الثوري". صنعاء

Amour

جمال جبران
(1)
سؤال أول: ماذا يفعل الناس بكل هذا الوقت الذي هو أعمارهم! من أين يأتي الصبر لحياة قد تصل إلى الثمانين من سقفها!
سنة وخمس وعشر. أليس هذا كثيراً على الحياة معاً! ألا يمكن البحث عن حياة أخرى في مكان آخر مع أشخاص آخرين!
هؤلاء الذين يعيشون هكذا، بصبر واشتياق دائم وحب ألا يضجرون من هكذا حياة!
بطل رواية الكاتب اللبناني حسن داود الأخيرة "لا طريق إلى الجنة"، يحاول وهو يذهب في المرض البحث عن حياة جديدة بعيداً عن تلك التي كانت له مع زوجته لسنوات. هل يحدث هذا فعلاً في الحياة!
(2)
 يبحث السينمائي النمساوي الشهير مايكل هاينكي مجدداً في سؤال الألم الإنساني والانتظار على مستويات كثيرة. في فيلم  (حب )
جديده الذي استحق جائزة السعفة الذهبية في مهرجان (كان) السابق ومن بعده جائزة أوسكار أفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية هذا العام. يقوم بجمع الممثل العجوز الفرنسي جان-لوي ترنتنيان الذي كان قد فتح حياته السينمائية مع فيلم "الله صنع المرأة" في العام 1956 مع الممثلة الشابة وقتها بريجيت باردو. وهو اليوم يلعب فيلمه "حب" مع الفرنسية العجوزة إيمانويل ريفا التي كانت بدورها قد بدأت السينما عن طريق فيلم " هيروشيما حبيبتي" العام 1959 مع المخرج الفرنسي الآن رينيه وهو الفيلم المأخوذ عن رواية بنفس الإسم للكاتبة الشهيرة مارغريت دوراس. ولا يتوقف مايكل هاينكي فقط عند جمعه ترنتنيان و ريفا بل يأتي بالفرنسية الفاتنة إيزابيل هوبير التي ستلعب دور ابنتهما. وهي كانت قد اشتغلت مع هاينكي في العام 2001 فصنعا فيلم "معلمة البيانو" لتحصل على جائزة السعفة الذهبية لأفضل ممثلة عن دورها هذا وهو المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتبة النمساوية الفريد إيلنيك،صاحبة جائزة نوبل للآداب العام 2004. عمل يبحث بدوره في مسألة الوقوع في الغرام رغماً عن فارق السن الذي يقف بين تلميذ مراهق ومعلمته ويتم التعبير عن ذلك بإبراز الألم الإنساني الذي يترتب على عملية بناء مستحيلة لا يمكن لها أن تتم في مناخ يرفضها تماماً ويقوم بالتشهير بها.
(3)
في "حب" نجد شيئا شبيهاً بهذا لكن مع عدم توافر مسألة الفارق العمري. يفتتح الفيلم بمشهد اقتحام الشرطة لشقة مقفلة ليجدوا جثة امرأة على سريرها وتحيط بها الزهور من كل جانب. لون بشرتها مائل إلى الزرقة ،ما يقول أن الوفاة قد صارت منذ وقت طويل وكذلك الرائحة المنتشرة في المكان.
يعود الفيلم إلى الوراء ببطء. بطء من ذلك النوع الفرنسي المبني على إيقاع يمشي الهوينا كأنه لا يريد أن ينتهي. كأنها رتابة متعمدة وتقول لمشاهدها أن اذهب بعيداً فلا جديد في الأمر. طريقة يتعمدها هاينكي وهو يعلم جيداً أنه قد خلق علاقة مع ذلك المشاهد الملول الذي سوف يدرك لاحقاً أن هناك مايستحق الانتظار لمشاهدته.
يعود الفيلم إلى الوراء من بدايته . نرى لعاشقين تجاوزا الثمانين من عمرهما. نراهما عائدين من سهرة موسيقية و ابتسامة عالية ترتسم على هيئتهما. في اليوم  التالي تصاب السيدة بصدمة في الدماغ فلا تعود قادرة على التصرف في حركة حياتها. يأخذها إلى المشفى لكنه يعود معها. يبدو غير مصدق أو غير واثق في صوابية ماحصل. من جهتها تخبرهُ أن عليه عدم تركها في ذلك المشفى، هي تريد أن تموت في البيت.
ابنتهما (إيزابيل هوبير) تأتي لتشاهد ما حصل في غيابها. حياة لشخصين يديرها شخص واحد، معاً. الرجل العاشق يعيد ترتيب حياته وكأنها صارت مقسومة بشكل عملي بين اثنين. يقوم بكل شيء في البيت. الابنة تواجه هذا بطلب نقل والدتها إلى المشفى فهناك سيكون الوضع أفضل للطرفين. رفض تام. يبقى العاشق العجوز في البيت ولا يخرج منه إلا لجلب شيء. يبقى سارداً ومهتماً بالتفاصيل الكبيرة والصغيرة. وبغية وصوله إلى نقطة قصوى في الوصول إلى متانة الاهتمام بتلك التفاصيل يعمل على طرد العاملة التي كانت موظفة في البيت. هو يريد،بمفرده أن يكون المشغول الوحيد بعشيقته العجوز ولا شأن للعالم بها.
(4)
لا تحركات كثيرة للكاميرا أو تنقلات لها خارج ذلك البيت. التصوير هناك فقط. لا مجال لأي تشتيت مع ذلك البطء الذي تسير به الأمور. الحياة الكثيرة كلها وتعاد عملية روايتها من قبل العجوز في مقابل عجوزته التي تغادر سنواتها الكثيرة لتعود بتصرفات طفلة. كلامها لا يظهر واضحاً، تردد مثل تلك المفردات التي يبدأ فيها الأطفال التدريب على الكلام. هي تبدو عجوزة فقط عندما تتعمد الوقوف عند مفردة "ألم". تكررها باستمرار وهي تنظر إليه. كأنها تطلب منه شيئاً وعليه أن يقوم بتنفيذه. لقد انتهت حياتها ولم يعد هناك سوى "ألم". لكنه لا يسمع أو يحاول أن لا يسمع، يمنع الكلمة من أن تصل إلى أذنيه وقلبه. يحاول الفرار والهرب إلى نقطة تطبيق دور الأم، كأنه صار أمها وهي تتمنع عن تناول وجباتها. يمسك بفمها ويفتحه بالقوة عاملا على إمرار الطعام. هو يحاول إبقاءها على قيد الحياة وهي تتعمد تكرار مفردة : "ألم".
يستمر المرور البطيء للمشاهد التي تتقلب في مكان واحد. والمشاهد في مكانه لا يملك خيار الهروب من كل هذا الألم البطيء والقاسي وصولاً إلى النهاية التي ينتظرها ويعلم بيقين أمر حدوثها لكنه لا يريد أن تنتهي هكذا. مشاهد يريدها أن تكون نهاية أقل ألماً لكن لا سبيل من النجاة منها. لا مفر من مشاهدة ذلك العجوز هو يقوم بتقريب الوسادة من أصابع يديه. يجلس على السرير ويقوم بتقطيع أغصان تلك الزهور التي ظهرت في بداية الفيلم، وانتهت به.
(5)
فيلم أنيق وساحر ومؤلم في آن. يستحق الُمشاهده.
______________________

مقال منشور في عدد الخميس 27 يونيو 2013- جريدة "الثوري". صنعاء