الأربعاء، 19 أبريل 2017

بيروت ، تُفاحتي الأخيرة



قُلت سأخرج هذا الصباح كي أُنهي أشغالاً شاقة وكثيرة. وخرجت ، على الرغم من الجو الغائم والماطر الحزين. لأول مرة أخرج صباحاً منذ موت والدي جبران. على تلفوني تسير تحفة بليغ حمدي " حاول تفتكرني". يُغنيّها عبد الحليم حافظ لكن كل شيء في الأغنية مشغول بعبقرية بليغ. موسيقاه تقول كلاماً. هو الوحيد في تاريخ الموسيقى العربية الذي فعل مزيكا بتتكلم. " ومنين نجيب الصبر يا اهل الله يداوينا.. وسافر من غير وداع ". تبقى فكرة الذين يموتون ونحن بُعاد عنهم فكرة مستحيلة التصديق . لابد من موت الأحبّة أمام أعيننا كي نُصدّق موتهم وبأنه حصل. وعليه يبقى موت بابا جبران مؤجلاً إلى الأبد بما أني لم أشاهده يموت أمام عينيّ ووجدت خبر رحيله نائماً في رسالة على تلفوني. القاتل في الأمر أيضاً أن تجد خبر وفاة أقرب الناس إلى قلبك مرسلاً عبر برقية "واتس آب". بهذه البساطة صار الموت سهلاً. 
ما علينا. 
خرجت صباحاً في المشوار الأول. إلى الجامعة اليسوعية كي أفعل قراراً له أمر تغيير حياتي، على افتراض امتلاكي لحياة قادمة. على افتراض امتلاكي لحياة من الأساس. لكن في الطريق توقفت وقلت سأذهب إلى السفارة المصرية علّهم بعثوا بتأشيرة دخولي إلى القاهرة. لكن توقفت أيضاً. لازم قبل هذا أن أروح إلى الجهة الأمنية حتى أقوم بتمديد فترة إقامتي في بيروت.  لكن تراجعت مجدداً. كان الوقت قد تأخر ولن أحصل عليها في اليوم نفسه. قلت سأذهب إلى الجريدة حتى أجدّد بطاقتي الصحافية التي انتهت قبل 3 أشهر. تذكّرت بأني لا أملك صورة للبطاقة. سأتصل إذاً بالناس في الجريدة كي أطمئن لوجود الفتاة الحلوة ، كبيرة القسم الثقافي التي عليها كل أموري في الجريدة. لكن رقمي الهاتفي خربان ولابد من رقم جديد. وكنت بحاجة لنصف ساعة كي أحصل على الرقم الهاتفي بعد أن أخذوا لي صورة وخطوات شديدة الدقة. لقد تغيّر الوضع ولم يعد من السهل الحصول على رقم هاتفي. وأخذته.
قبل أن أفعل اتصالاً اكتشفت بأن بطارية هاتفي قد نفدت. فكان قرار العودة إلى البيت.
لكن وأنا أعبر المسافة الفاصلة بين جانبي الشارع المؤدي إلى حيث أسكن سمعت شجاراً بين فتاة حلوة ، ( كل الفتيات حلوات )، وشاب أرعن يبدو أنه عاكسها بطريقة قاسية. سمعتها تقول له :" يا حيوان، يا أزعر". قالتها بنبرة تملك كل حنان العالم. تمنيت وقتها بأني الشاب المشتوم. تمنيت وقتها أن أذهب إلى الفتاة وأقول لها: " لو سمحتي اشتميني بكل قوتك، لو سمحتي قولي لي ياحيوان، لو سمحتي أنا يتيم وأحتاج لقليل من حنانك ".
 يبدو ذلك الشتم حين يخرج من فم فتاة لبنانية كأنه مديح،كأنه دلال، كأنه الحب كلّه . لا لهجة في الدنيا قادرة على تحويل الشتيمة إلى كلام حلو غير اللهجة اللبنانية حين تخرج من فم أُنثى.  
والله على ما أقول شهيد.   

الأحد، 16 أبريل 2017

جبران لا يحقد عليّ




لم يعد لديه سوى تلك الأصابع التي صارت عينيه ويرى بها،أصابع كأنها كاميرات معلقة فوق رأسه. هو جبران، أبي الذي لم يعد يرى من وقت طويل.لا أدري متى توقفت عينه عن النظر.لم يحدث هذا الأمر بطبيعة الحال فجأة.احتاجت المسألة وقتاً من الأيّام وبشكل تدريجي حتى وصل جبران إلى تلك الدرجة من البصر،إلى العتمة النهائية.

لم نعش مثل صديقين، أبي وأنا.مثل تلك الحياة التي كانت لأصدقائي وكنت أراهم يتسايرون ويذهبون مع ابائهم إلى السوق وإلى النزهات وحفلات الأعراس مع بعضهم. كان أبي مشغولاً بشغل الحراسات اليلية التي كان يعمل بها وتمنعه من التصرف كأب طبيعي مثله مثل العالمين.كان مشغولاً بتدبير أمور الحياة لنا.
لقد تأخرنا كثيراً في معرفة بعضينا.

ضربني أبي مرة واحدة في حياته. أو مرتين. لكنيّ عالق عند الضربة الأولى.ألمي الشخصي (لا الجسدي) ما يزال باقياً ومحتفظاً بتفاصيل معركة حصلت فوق جسدي وكنت مظلوماً فيها. أتذكر الضرب الذي أخذته،ذلك الضرب المجانيّ وجاء نحوي بكثرة.

يقول جبران: أتذكر، مازلت؟
نعم ، وتماماً بكل التفاصيل والأذى.
يقول: أنت كائن شيطاني لا يُسامح.
لا علينا،أقول فقد مضى كل شيء وبقينا الآن متساويين: أنت ضربتني وأنا أهملتُكَ.
يضحك.

أتعمد قول: أهملتُكَ ياجبران بصوت مرتفع كي يسمع كلمتي بوضوح.هو لم يعد يسمع بشكل جيد.يمكن التصريح بحزم والجزم بأنه لم يعد يسمع. أو يسمع ما يريد سماعه.لقد صار عجوزاً وهذا الفقد والنقصان في السمع هوضريبة السنوات التي قضاها في الحياة. لكنّه ما يزال يسمع إذاعة صنعاء التي لا تفارق المكان الذي يتكوم فيه طوال يومه.المكان الذي صار يقيم فيه كجزء من المكان نفسه. ما أقسى أن يصبح الواحد منّا عجوزاً ولا يصير مؤثراً في المكان وفي الدنيا.

لكنّه ما يزال يسمع. ما أن يشعر بوجودي في البيت حتى يرفع شكواه للذين في البيت نفسه،ماما وشقيقتي الصغرى.يرفع جبران شكواه مندداً بذلك الصبي (أنا) الذي لم يعد يزوره في البيت ولا يسأل عنه.يقول إنه لم يرني منذ سنة ونصف السنة.هكذا يقوم بتحديد فترة الغياب بصرامة ودقة. لطالما ردد الشكوى نفسها أمام شقيقي محمّد ( عندما كان محمّد على قيد الحياة).

كانوا يعرفون،جميعهم أنه يبالغ أو يفعل نوعاً من الدلال. لقد صرتُ الصبي الوحيد الذي بقي له على قيد الحياة ولا بد أن يتدلل عليه.
الغريب أو اللافت أنه لم يعد يتكلم معي عن الراحل محمّد. كأنه قرر أن يُبقي سيرة فقدنا الكبير في قلبه ولا يبوح بها لأحد. لا يريد أن يُضاعف من خسارة العائلة وألمها بسبب فقد محمّد والاستمرار في تكرار القصة كبركان من الحزن لا يريد أن يهدأ.لقد انكسرت هذه العائلة بموت محمّد وصرنا عائلة منكوبة ومسحوقة بموت محمّد وانتهى الأمر. وهو انكسار لم يعد يصلح معه كلام أو شكوى مكررة. من دون محمّد لم نعد قادرين على إيجاد جدار نتكئ عليه. الصمت فقط، و كأنه اتفاق جماعي بيننا ويقول بضرورة إغلاق كتاب محمّد وعدم تقليب صفحاته،وضعه في الأرشيف.اتفاق بضرورة منح محمّد الجميل ذلك الهدوء الذي يحتاجه الموتى وذلك الصمت الذي يلزمه حول قبره.الطمأنينة التي يستحقها.

أحياناً أذهب إلى جبران،إلى بيتنا القديم حيث يسكن،البيت الذي رفض تركه والانتقال معنا إلى حيث نقيم الآن،متعللاً بأنه لايقدر على ترك أصدقائه القدامى.وهو يعلم أيضاً. كل هؤلاء الأصدقاء الذي يعنيهم ماتوا وغادروا الدنيا ولم يبق منهم غيره.
أذهب إليه في البيت القديم وأدخل ولا يراني. أتأمله وأتبع حركاته في البيت وكيف صارت أصابعه دليله.لقد صار يرى بأصابعه. هي الأصابع هنا وقد صارت عيوناً كثيرة وكبيرة.ألتقط له صوراً كثيرة.صار معي أرشيف ضخم من الصور تخصه وهي حصيلة زيارات كثيرة هو لا يعلم أني فعلتها. أقوم بالتقاط الصور فقط وتخزين حركاته في الذاكرة.أقول لنفسي: عندما يموت جبران سأعود إليها.

لقد تعب هذا العجوز من البقاء لوحده في ذلك البيت القديم والذي تربيّت أنا فيه وقضيت سنوات كثيرة من عمري. لقد تعِب وقرر البقاء معنا في البيت الجديد،بيت ماما زمزم وفيروز، شقيقتي الصغرى. لقد تعب لوحده لكنّه لا يعترف.هو عنيد ولايعترف بسهولة. لا يتنازل أبداً. عقلية قبيلي أصيل.

هو معنا هذه الأيام وأنتظر،خلال سهري ميعاد نهوضه للوضوء فجراً. أُمسك بيديه ونمضي معاً إلى طريق الماء. يسأل: مَن! فأقول: أنا جمال. ينتهي من وضوئه صامتاً ونعود ليغرق في صلاته. أسمعه يقول،بصوت خافت:الله ينوّر قلبك يا بني.
أعود إلى مكاني بقلب مطمئن.


أبي،جبران لا يحقد عليَّ.