السبت، 19 أكتوبر 2013

همسة حائرة

 
عندما سمعتُ عبد الوهاب يغني " يا مُنيةَ النفس ما نفسي بناجية / وقد عصفتِ بها نأيًا وهِجرانا"،انخلع قلبي وانتبه.كأن موسيقى تتقدم باتجاهك وفي نيّتها أن تُشبع الجوع الذي أنت فيه، موسيقى ممتلئة وأغنية كما لو أنها نِسمة وأتت في وقت حاجة لها، وأنت تحتاج لعبوهاب دائماً.هذا المختلف المدهش والمتجدد دائماً في اللحن وفي الطريقة.لايشبه نفسه أبداً.فتشعر،بنحو إيجابي وكأن قلبك شيء هائل يبدأ في المعدة وينتهي عند الحلق كما في رواية "الهدنة" لماريو بينيديتي.
كان الوقت فجراً وأنا غارق في استذكار أوراق مادّة الفيزياء، الثانوية العامّة،الاختبارات النهائية كانت على الأبواب. ربما كان هذا في العام 1992. لم أعد أذكر. غناء عبد الوهاب كان صادراً عن إذاعة صوت العرب وبرنامج اسمه "زيارة لمكتبة فلان".فكرته أن يذهب صاحب البرنامج لبيت أحد الشخصيات ويبقى يستمع لمختارات من مكتبته الموسيقية. صوت الاذاعة كان مشوّشاً فلم أقدر إلا على المقدمة الموسيقية البسيطة والبيت الأول وسجلتهما على ورقة. وقتها،في ذلك الزمن لم يكن معنا انترنت و غوغل كي أقوم بإدخال هذا البيت الأول وأعرف من أيّ أغنية هو.كان لا بد من وقت طويل كي أعرف انها أغنية "همسة حائرة"من قصيدة بنفس الاسم للشاعر عزيز أباظة. وقتها كان نصف قلبي مع الاذاعة ونصف عقلي مع الاستذكار. كانت عادتي الدائمة في مراجعة الدروس. وكان من الطبيعي أن أتحصل على نسبة مئوية ضئيلة في النتائج النهائية ما أجبرني على إعادة العام الدراسي.كنت أرغب في دخول كليّة الهندسة. هذه واحدة من الأفكار الغبية الكبرى التي أنجزتها في حياتي.
ومالت السنين متقدمة،إلى الأمام وكلمات القصيدة ما تزال ثابتة في دفتر مذكرات ضخم كنت أكتب عليه مواعيد البرامج الاذاعية.ما يزال هذا الدفتر المجلد موجوداً معي حتّى اليوم. في الجامعة تمكنت من الذهاب إلى الاسكندرية وإلى القاهرة تالياً وبقيت فترة غير بسيطة من الزمن وفي بالي "همسة حائرة" باحثاً عنها، ولم أجد. يعتقدُ الواحد منّا، بسبب افكار مسبقة أنه سيلقى في القاهرة أيَّ شيء يبحث عنه. مثل اعتقاد المرء أن كل من في المملكة السعودية يذهبون إلى المساجد للصلاة.
ومضت بعدها سنوات وما تزال "همسة حائرة" بعيدة عن يديّ. في 2005 ذهبنا إلى الدار البيضاء بعد عودتنا من موريتانيا الحبيبة وفي الطريق وقفنا ليومين في دبي أو سوقها الحرّة. وهناك التقيت بها. أخيراً. موجودة في اسطوانة مع أغنيات أخرى فاشتريتها وفرحت مع بقائي مستغرباً من عثوري عليها في دبي حيث يمكن أن يموت الواحد من الجوع لأنه لا يقدر على الحديث بالانجليزية ويطلب طعاماً.
"يبيت يُودِع سمعَ الليل عاطفةً / ضاق النهار بها سرّاً وكتماناً".
في لحن "همسة حائرة" يحترم عبد الوهاب فكرته القائلة بضرورة وقوع اللحن على هيئة سؤال وجواب. في كتابه "رحلتي ،الأوراق الخاصة جداً" يقول انه يحب الألحان التي بها الأسئلة وأجوبتها المقنعة لأنها تمتع العقل. لكنه يخالف قوله عن ضرورة فعل قفلة لافتة لأي لحن وأن يكون منضبطاً بحيث لا يكون عسيراً على المجموعة تأديته وإنتاجه بشكل تام.
"نكاد من بهجة اللقيا ونشوتها / نرى الدُّنا أيكةً والدّهر بستانا".
هو يفعل قفلة فجائية تنتهي بغرابة أو هكذا نعتقد بسبب قصر المدة الزمنية للعمل. كأن الواحد ما زال يحاول فهم ما يحدث له من الموسيقى القادمه إلى قلبه لينتهي الأمر فجأة.
"ثم انثنينا وما زال الغليلُ لظًى / والوجدُ محتدمًا والشوقُ ظمآنا".
كأنه احتجاج على ماحدث فيقول: ليته لم ينجز وينتهي. ليته فعلاً لم يُنجز وينتهي .
الشوق ظمآنُ يا عبد الوهاب، والله العظيم إنه ظمآن. وحياة أميّ إنه كذلك، ألا تسمع !