السبت، 9 نوفمبر 2013

أحزان «كوماري» حازم صاغية شاهداً



كأنّه احترف التحليل السياسي رغماً عنه وضلّ طريقه عن لعبة السرد التي يهواها. كتابه «أنا كوماري من سريلانكا» (دار الساقي) نموذج لما تعيشه العاملات الأجنبيات في لبنان... بلد العنصرية


في جديده «أنا كوماري من سريلانكا» (دار الساقي)، لا يبتعد الكاتب والمحلل السياسي حازم صاغيّة كثيراً عن هوايته الأثيرة: السرد. كأنّه يصرّ على الذهاب إلى حكيه كروائي وممارسة هذه المهنة بامتياز. كأنه كاتب احترف التحليل السياسي رغماً عنه وضلّ طريقه عن الرواية ولعبة السرد التي يهواها. صاحب «قضايا قاتلة» يفعل الشيء نفسه كل الوقت، أو كأنّه يفعله على الأرض. قصة الحكي... الحكي عن الناس العاديين. هناك أيضاً ما هو أكثر من ذلك. في «هذه ليست سيرة» مثلاً، يتحاشى القول إنّ الكتاب سيرته، بل يدرجه بوصفه تجربة حصلت لواحد من الناس قد يكون هو أو لا يكون... هو يسرد فقط. حتى إنّه افتتح كتابته البحثية القيّمة عن أم كلثوم في كتابه «الهوى دون أهله» بطريقة أنكر فيها أنّه يخوض في سيرة. في أغلب ما يكتبه، يخوض صاغية في السيرة، وإن كانت ناقصة.

ورغم هذا التوثيق الجاد الذي يتحاشى دخول لعبة التسميات أو التصنيفات، إلا أنّ الكاتب اللبناني يضع نفسه في خانة السارد، أو الراوي الذي لا يريد أن يفصح عن نفسه، رغم كونه راوياً كليّ العلم يعرف تماماً تفاصيل الحياة التي يروي عنها. لمسنا هذا في «مذكرات رندا الترانس»، تلك الفتاة التي اتّبعَ صاحب «نانسي ليست كارل ماركس» سيرتها وتحولاتها وهي الفتاة التي لم تعرف لنفسها ذنباً سوى أنها «تعرضت لكمّية من الاستروجين تفوق ما تعرّضت إليه من التيستوستيرون». بالتالي، إنّها الفتاة التي ضلّت طريقها نحو النوع الجنسي الذي لم يكن لها. يجيد حازم صاغيّة الخوض في المسائل الحميمية الخاصة بنحو واضح. يجيد استنطاق أصحابها أو كأنّه يهيئ المناخ اللازم لها كي تنفتح على الحكي والسرد. إنّه اهتمام واضح بالناس العاديين الذي يعيش معهم، وهذا ما يظهر مجدداً في عمله الجديد «أنا كوماري من سريلانكا» الصادر عن «دار الساقي». إنّها شخصية من لحم ودم. الشابة السريلانكية كوماري تمزّقت حياتها وروحها بجواز سفر مزوّر في أكثر من زاوية من الوطن العربي الكبير من القاهرة إلى الكويت، وصولاً إلى بيروت. في كل يوم لها هنا أو هناك، عانت ما عاناه من جبال من الألم. اقتفى صاغية رحلتها على طريق طويل من العذابات وخرج بكتابه الجديد. تركت كوماري ابنتها في موطنها لتخوض الترحال في بلاد أخرى. أخبروها فقط أنها ستحصد هناك مالاً كثيراً يعوّض ابنتها عن الحياة التي عاشتها هي، في ما يشبه البحث عن الفردوس المفقود. لكن في بيروت، ستكون لها قصة أخرى... مع الجحيم بحد ذاته. حطّت الطائرة بكوماري في بيروت. كان في انتظارها الكفيل اللبناني الذي يُفترض أن تعمل لديه في البيت مقابل 100 دولار شهرياً. قبل أن يتسلمها الكفيل، خضعت كوماري لحقنة تجرى لـ«الخادمات الجدد» عندما يزرن لبنان للمرة الأولى! لا يحدث هذا إلا مع الخادمات الأجنبيات، «وهذه تجربة كنت قد تدرّبت عليها في الكويت عند طلب الإقامة، وقد كانت أشمل وأقسى» تقول كوماري.
لكن يبدو أنّ ما لاقته في المطار لن يكون سوى أول الغيث. هناك جحيم آخر سينتظرها، حيث أمّ ذلك الكفيل/ القاضي الشهير ستذيق كوماري الأمرين. أما القاضي، فسيحاول التوفيق ــ من دون جدوى ــ بين طبع والدته القاسية وتلك المسكينة التي ستحاول الانتحار هرباً من جحيمها البيروتي.
«تلك العجوز كانت تتفنن في تعذيبي. كانت تفرض عليّ، مثلاً، ألاّ أنظف المرحاض بالعصا، بل بيديّ وبالإسفنجة فحسب، فكنت أبكي باستمرار...» تقول كوماري ساردة عذابات كثيرة أخرى لا نهاية لها. وتضيف: «في البيت عُلّقت صورة كبيرة ليسوع. كنت أقف أمامها وأبكي وأطرح على المسيح بعض أسئلتي وهواجسي. وهي كانت تسألني حين تراني أفعل ذلك: ماذا تقولين لله، وهو أيضاً نفس السؤال الذي كانت تواجهني به حين تصطحبني معها للصلاة في الكنيسة أيّام الآحاد. كنت أجيب: هنا لا أحد يسمعني، أريد أن يسمعني الله على الأقلّ».



جريدة "الأخبار"- بيروت العدد ١٩٤٤ الجمعة ١ آذار ٢٠١٣

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2013

عن مجموعة جديدة من القتلة


  
  (1)
يا أهلاً بهم. يا أهلاً وسهلاً. هيَّا. نحن كرماء ونقبل زيارة الغرباء الجدد على المدينة. يأتون بأسلحتهم إلينا في كل وقت من غير مواعيد. لكنّا نقول: يا أهلاً وسهلاً. نحن نتفهّم حالتهم ونفسياتهم. يحملون أسلحتهم وهم سائرون في أيّامهم ولياليهم لأن لديهم ثآرات كثيرة. يمشون بالسلاح حتى وهم يحتفلون بأعراس أبنائهم وبناتهم. يخافون حتى وهم في وسط فرحة أبنائهم. لكن لا يخاف من الثأر إلّا قاتل. قاتل قد فعل كثيراً من القتل في حياته وهو يخاف في كل لحظة.
يأتي الموت عادة من الخلف. يأتي من الزاوية التي لا تتوقعها الضحية. أذكر قصة للروائي الأثيوبي/ اليمني محمد عبدالولي يقول في نهايتها «إن الرصاص كان يأتي من الخلف». أعتقدها قصة «الأطفال يشيبون عند الفجر». إن لم تخنِ الذاكرة. تلك القصة التي كانت مقررة علينا في صفوفنا الدراسية الأولى قبل الدخول إلى الجامعة. هم أولئك الأطفال الذين كانوا يذهبون إلى الجبال للدفاع عن الثورة. أقصد الثورة الأولى ضد الحكم الإمامي وليس ضد الثورة الثانية التي قامت وخلعت الزميل علي عبدالله صالح. هي فكرة مؤلمة. فكرة الموت العلني، ونحكي هنا عن فكرة تتجاوزها اليوم بشدّة. فكرة تملك شوكاً في أظافرها وتأكل فينا. تأكل حياة الناس العاديين الذين نحن منهم. لكن من يرى!
 فكرة قاتلة وتمشي فوق حياة الناس. حياتنا نحن الفقراء على وجه الخصوص.نحن الذين لا نمتلك أسلحة في بيوتنا أو في جيوبنا لنحملها معنا عندما نخرج إلى شوارع الله كي نرى جمال البلاد التي نعتبرها بلادنا.
السؤال: لماذا فعلنا ثورة جديدة إذاً؟ ألكي يأتي لحكمنا نفرُ من الرعاع الجدد ويركبون عربات مدّرعة ويأخذون مصاريفهم اليومية من السعودية، الشقيقة الكبرى! هل ضحّى شباب الثورة بحياتهم كي يأتي هؤلاء الهمج الجدد كي يقتلوا ماتبقى من شبابنا! في نهاية يوم فائت وقد ذهبت جريدتنا إلى المطبعة وصلنا خبر مقتل الشابيّن حسن جعفر أمان وخالد الخطيب، على يد مرافقين تابعين للشيخ الإصلاحي الأصولي علي عبد ربه العواضي. صابت قلوبنا فجيعة وتفاصيل الدماء التي سالت في شوارع صنعاء قطرة قطرة تصلنا قليلاً قليلاً. بهدوء مرعب. كيف تمّ القتل. وكيف تمّ الاجهاز على حياة الشابيّن. كيف كان الشاب الثالث (الناجي) الذي كان معهم في السيّارة يصيح وينادي القتلة بأن لا يقتلوا حسن وخالد. كان يصيح بصوت لم نسمعه. كأننا اعتدنا على الموت المجاني السهل. كأننا اعتدنا التعايش مع القتلة وصار كل واحد منّا بانتظار موعد قتله القادم. وهناك ما هو أبشع؛ الشيخ العواضي قال إن مرافقيه قاموا بتصويب الرصاص على الشابين لأنهم فحّطوا(تدوير) بالسيارة (التفحيط صار جريمة تستحق القتل عند آل العواضي). تبرير آخر: قال: إن الشابيّن المقتوليّن مرّا بجوار سيّارة العروسة. يا رب العالمين أنقذنا! تعال لو سمحت! كأن أهل اليمن يذهبون في مواكب أعراس بناتهم وهنّ عرايا ولسن مغطيات من تحتهن إلى فوقهن! يعني ماذا لو تجاوز الأمر تعدٍ للموكب الكريم. ماذا كان سيحصل؟ ماذا كانوا سيرون؟ وفوق هذا وذاك. قال بيان الشيخ الديني صاحب اللحية التي تكنس بلدا بأكمله. قال: نحن معانا ثارات وخفنا أن يكون موكب الشباب من أصحاب الثارات ضدنا ويريدون بنا شراً. بالمعنى البسيط هنا. يعترف الشيخ أن له ثأرات. أنه عليه دم لرقاب قبائل أخرى والعكس. لكن ما ذنب أولئك الشباب الذي كان واحد منهما ذاهب في اليوم التالي إلى ألمانيا للدراسة بحسب منحة أخذها بسبب مجموعه العلمي الباهر الذي حصّله. كان سيذهب للدراسة وهاهو يذهب إلى الموت. سالت دماؤه في الشوارع وسيارات النجدة تنظر وتراقب عن بعد مثلما كاميرا خفيّة. هل صارت حياتنا، بعد الثورة، حياة كاميرا خفيّة؟ هل صرنا موتى مفترضين. موتى معلنين. يبدو أنه صار «يوميات الموت المعلن». ولا أحد يتدخل وحده الشيخ المثقف ياسر العواضي «مردوخ الصحافة اليمنية». بحسب تسمية الرئيس السابق علي عبدالله صالح له. وحده الشيخ المثقف ياسر من سوف يتدخل بفرض تحكيم يقوم بتقديم كم مليون وكم بندق وكم سيّارة وكم قرف. كي يتنازل أهالي الشهداء عن القضية. الأهالي رفضوها سنرى إلى أين سنمضي مع هؤلاء القتلة الجدد. صباح الخميس كان هناك مسيرة مع الشهداء.
 (2)

 من صباح اليوم سأحمل سلاحاً، أدافع به عن نفسي.

الأحد، 3 نوفمبر 2013

نبيلة الزبير: ذاكرة الغانيات الحزينات



اثنتا عشرة سنة احتاجت إليها لإنجاز روايتها الثانية «زوج حذاء لعائشة» (دار الساقي). لا ليالي حمراء هنا ولا «سكس» يمنياً. وحده الألم الذي يعصر بحيوات فتيات اخترن أقدم مهنة في التاريخ بعدما وقعن تحت سلطة فاسدة، ورجال دين يرغبون في إثبات فحولتهم

استغرقت الكاتبة اليمنية نبيلة الزبير 12 عاماً لإنجاز روايتها الثانية بعد باكورتها «إنه جسدي» (2000). 12 عاماً احتاجت إليها الزبير كي تتمكن من اختراق العالم السفلي اليمني، باحثة في سراديب أقدم مهنة في التاريخ في صيغتها المحلية والاقتراب من الكائنات المنخرطة فيها. لا تبدو المهمة سهلة في بيئة اجتماعية أبرمت معاهدة مع الصمت موصدة بوابة البوح والكلام عن أمراضها المزمنة. لا يسمح شرف القبيلة هنا بالتطرق إلى مواضيع ينبغي أن تبقى محاطة بالكتمان، وأي محاولة اختراق لمنطقة «العار» هذه ستكون محفوفة بأخطار كثيرة. لكن الاختراق حصل، فصدرت «زوج حذاء لعائشة» (دار الساقي) التي تروي حياة مجموعة من الفتيات اليمنيات انخرطن في مهنة الدعارة.

للوهلة الأولى، يبدو موضوع الدعارة مغرياً وقادراً على جذب القرّاء الراغبين في خرق العوالم السريّة لمجتمع مجهول مثل المجتمع اليمني. لكن الأمر لن يكون بهذه المجانية. لا شيء في الرواية من هذا، ليس هناك سوى ماكينة ألم ستدور بداية من الصفحة الأولى للعمل وحتى نهاية الورقة الأخيرة منه، حكاية تفاصيل الطريق الشائك الطويل الذي تسير عليه بائعات الهوى «بأقدام حافية والذهاب إلى نقطة التوقيع على بيان استقالتهن من آدميتهن». لا «ألف ليلة وليلة» هنا، ولا ليالي حمراء أو «سكس يمني»، وحده السواد والألم اللانهائي والجروح المفتوحة وقيح وأيام حيوات فتيات وقعن تحت سلطة فاسدة ورجال دين شواذ يرغبون في إثبات فحولتهم، كما خوف عائلاتهن من الفضيحة.
بطبيعة الحال، لن يكون الفقر بريئاً من كونه أحد الأسباب الرئيسية لازدهار مهنة الدعارة في البلاد التي ارتفعت أسهمها كثيراً بعد عام 1990. بعد اجتياح نظام صدام حسين الكويت في ذلك العام، طردت السعودية الشقيقة أكثر من مليون يمني كانوا يقيمون في أراضيها بسبب وقوف نظام علي عبد الله صالح إلى جانب صدام حسين. وكان أولئك اليمنيون يساعدون بدعم الاقتصاد بما كانوا يضخونه من حوالات مالية كبيرة كانوا يرسلونها إلى البلد. تغيرت حياة الناس بعد ذلك التاريخ وارتفعت نسبة الفقر. ومن يومها، صارت اليمن سوقاً مفتوحة لأغنياء السعودية يأتون إليها من أجل إفراغ شهواتهم. الفقر كافر والحاجة قاتلة، فلا بأس حينها من أن يضحي رب العائلة بفتاة من أسرته كي يتمكن بعائدات جسدها من تدبير حياة باقي أفراد العائلة!
في الرواية، نجد نماذج من داخل ذلك العالم السفلي. رجاء التي تدخل الدعارة من بوابة الحاجة. ينكسر ظهر أبيها الذي كان يعمل في البناء فيستقر معوَّقاً في البيت، ليتكفل جسدها بتدبير حاجات العائلة. تفتح غرفتها الخاصة لاستضافة زبائن الرغبة المتوحشة. في البداية يتظاهر الأب المكسور بأنه لا يراهم يدخلون غرفة ابنته، يغمض عينيه، يفتحهما تدريجاً الواحدة تلو الأخرى. يرى بنصف عين أولاً ثم بعينين كاملتين، ثم مع الوقت وازدهار أحوال العائلة مادياً يتقدم ليستقبل «ضيوف ابنته» بنفسه، يعلن نفسه قواداً رسمياً لها.
إلى جانب رجاء، هناك زينب، البنت الفقيرة، تدخل المهنة بسبب ثقافة المجتمع الذكورية وتوحش سلطة ممثلة برجل أمن يضبطها وحيدة مع سائق سيارة، لم يكونا يفعلان شيئاً. يحرر لهما محضراً رسمياً لينتهي أمرها. البنت التي تدخل قسم الشرطة لا تعود بريئة، تنهشها أسنان الناس .يُطلب من والدها تسلّمها من هناك فيحضر لكنه يرفض تسلّمها: لم تعد ابنتي. إنها جزء فاسد في جسد العائلة ولا بد من بتره لتبدأ سيرها في طريق الآلام و... الدعارة.
لكن ليس الفقر والحاجة وحدهما يذهبان بالفتيات إلى تلك المهنة. هناك الترف أيضاً. نجد هنا البنت نشوى مثالاً، لديها أب ثري لا يضع اعتباراً لقواعد مجتمعه، يستقبل عشيقاته في غرفته الخاصة برعاية ابنته المدللة نشوى التي تتدبر أمر إعداد الجلسات. مع الوقت، تذهب إلى المهنة برجليها. الوضع منفلت والحاجة الجسدية تتصاعد. تعرف الأهل متأخرين الحال التي وصلتها الابنة، فيطلبون سجنها لفترة زمنية بطلب منهم. وراء القضبان، ستفتح عينيها على الرعب اليومي الذي يحدث للسجينات لتتغير حياتها. وهناك أيضاً تتعرف إلى «عائشة» التي يحمل عنوان العمل اسمها لكنها لا تظهر إلا عابرة في فقرات قصيرة. هي عائشة التي ولدت داخل السجن. أمها دخلته ظلماً وحملت بابنتها هناك. وماتت، لتبقى عائشة التي تتاح لها فرصة الخروج لممارسة الدعارة، لكنها ترفض لتعود إلى السجن مجدداً. تتكفل نشوى بكتابة حكايتها في محاولة لمنحها «زوج حذاء» علّه يعمل على إنقاذ حياتها من مصير أسود يتربص بها.
رغم الألم الذي حملته الرواية وهي تحكي قصص فتيات تعرّضن للأذية والإهانة والشتم والسحق والضرب، إلا أنّ نبيلة الزبير حرصت على أن تقدم نهاية وردية لهن. تنجح الفتيات في اختراع مصيرهن الخاص وإنقاذ أرواحهن من عصابات تلك المهنة، وهو ما قد يوحي بأنّ ماكينة الألم تلك قد توقفت رغم أنها ما زالت تحصد كثيرات، فاتحةً أسواقاً جديدة للدعارة في البلاد.


نُشرت في جريدة "الأخبار" - بيروت العدد ١٧٣٣ الجمعة ١٥ حزيران ٢٠١٢