الخميس، 19 نوفمبر 2015

حروب جنى فوّاز الحسن

توقفت الحرب الأهليّة لكنها لم تنته. فعل التقاتل لا غير، هو ما تم إسكاته في حين أنّ تداعيات ما حدث، لا تزال تواصل تأثيرها في الحاضر حتى في حياة الجيل الذي لم يكن له يد في تلك الحرب بل جاء بعدها. من هنا تمكن قراءة «طابق 99» (منشورات ضفاف/ دار الاختلاف) للروائية اللبنانية جنى فوّاز الحسن (1985)، بعيداً عن كونها سرداً مُنتمياً لـ «أدب الحرب».
هي التي تتخذ من مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 والتقاتل الأهلي اللبناني أرضية روائية لها زمنياً، ولكن باعتبارها اشتغالاً فلسفياً يتيح لشخوص العمل فرصة لإعادة اكتشاف ذواتهم عن طريق الحكي نفسه أو ما يشبه لعبة المرايا التي تظهر من عتبات الرواية الأولى، وتعطي للذات مجالاً لرؤية ما نجح الكبت في كتمانه.
على هذا، سنرى هيلدا المسيحية التي كُتب عليها دفع أثمان باهظة بسبب مشاركة أهلها في الحرب وعمّها الذي قتل ثلاثة فلسطينيين وانتحر. هيلدا التي راحت الى نيويورك لتعلّم الرقص، فتقع في غرام الفلسطيني مجد المقيم في الطابق 99 حيث التقى بها. هو الأعرج الذي يحمل ندبته على جسد نجح في الخروج حيّاً من المجزرة في حين قُتلت والدته وجنينها. أمّا الأب فقد تحوّل من مُعلّم في الـ «أونروا» إلى مقاتل في الحرب ومن ثمّ كان هروبه إلى أميركا ليعمل بائعاً للورد.
وبسبب صراعها بين «الهُنا» و»الهُناك»، يكون قرار هيلدا بالعودة إلى بلاد الأرز نقطة لبداية طريق الألم في قلب الفلسطيني المولود في الشتات وبقائه في ذلك الطابق محاولاً إعادة ترميم ذاته بالتذكّر وتأمل وطنه البعيد حيث «يبدو المخيّم غير موجود وبدت فلسطين كبلاد ضائعة في الزحمة». كان مجد قد سألها قبل الرحيل كيف ستحكي لأهلها عن غرامها بفلسطيني وأعرج؟ من هنا تلوح فكرة تشير إلى أنّ الخسارات عبارة عن متوالية لا تتوقف عندما تبدأ، بل تواصل سيرها مثل نهر طويل غير هادئ. على هذا، تواصل الرواية تقدّمها لتظهر بلا نهايات محدّدة في خاتمتها اعتماداً على أن «مآسي الحروب لا تنتهي بعد حدوثها، بل تخالها تبدأ من هناك».


نُشر المقال في جريدة "الأخبار" اللبنانية
 يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | @jimy36@


الاثنين، 16 نوفمبر 2015

جسد ناقص ..



موش عارف كيف قدرت على قطع المسافة الفاصلة بين المقهى الأول والمقهى الثاني المُلاصق لمنزلنا والذي أنُهي فيه ليلي،يومي! المسافة عادة تأخذ دقائق عشرة عبر دراجة نارية لا يتوقف صاحبها عن تشغيل أم كلثوم. بدت المسافة ثقيلة،أثقل من كل ليلة بسبب البرد. كأني تركت بعضاً من جسدي في المقهى الأول وعُدت كي أحمله ثانية معي. كأن ذراعي قد سقطت هناك من البرد وذهبت بدونها. كأني أمشي ناقصاً في البرد. تسقط عين أو جزء من شفة وحين أعرف بذلك أطلب من السائق عودتنا للبحث عن الأجزاء التي سقطت. كيف أعود إلى أمي ناقصاً على غير الكتلة التي خرجت بها. أنا أخرج من البيت وقد أجرت عليّ نظرة شاملة لتتأكد من خروجي كاملاً. كيف أعود وقد هربت ذراعي منّي أو نقُصت عيناً أو قدم. وهكذا كلما قطعنا مسافة نعود. كلما اقتربنا من المقهى الذي نسعى وصوله نتأخر مترين إلى الوراء. كأن هذا الهواء البارد ماء وقد صرت أغرق فيه. كأن له قوة ضاربة وتمنعني من التقدم نحو الهدف وتأخرني عشر دقائق على العكس من سير الساعة. يشبه الأمر تلك الكوابيس التي تتكرر دائما إثر سهرات ثقيلة وبنكهة الماء الثقيل. تأتي الكوابيس نتيجة لها وتظهر على شاشة نومي كل مرة. كابوس السير وسط نساء كثيرات يردن اقتطاع أجزاء من جسدي وأنا عاطل عن السير باقدام ثقيلة لاتقدر على التقدم خطوة واحدة. أو كابوس المشهد المُشير لتأخري عن اختبار الثانوية العامة،مادة الفيزياء على وجه الخصوص.أنسى كثيراً حقيقة القسم العلمي الذي درسته رغبة في الهندسة لكنّي وقعت بسبب البرد وسقوط أعضائي في الطريق. أتأخر في الطريق دائماً بسبب من البرد ولا أحضر إلا وقد خرج الناس من الاختبار. حتى وقد خرجت من الثانوية ودخلت الجامعة وخرجت منها وصرت معلما فيها ما يزال هذا الكابوس يطاردني. والآن يأتي واقعاً. كأني أعيش ناقصاً بدون أجزاء كاملة. لعل هذا ما يجعلني أطلب الناس كأني أستأجر من عاطفتهم عضواً أو اثنين. الجلوس لساعات طويلة وأنا أكتب بين أعداد كثيرة كأني أطلب عوناً. من هذا كلمة ومن ذاك أخرى. كأني أحيا بلغة ناقصة وأريد من الآخرين إكمالها كي تصير صالحة للنشر. كأنها حياة ناقصة وأعيش بها من زمان ولا أقدر عليها كما هي عليه. أنظر إلى أحجار البيوت الآن وقد اقتربت من المقهى. أُفكر في الأحجار الظاهرة من مكاني وهي تنظر إليّ وتبكي من البرد في حين تبتسم الجهة الأخرى منها وهي تُعطي وجهها إلى داخل البيت الدافيء ومن خلفها ستائر وأقمشة. ومن خلف الستائر أفراد عائلة تحضن بعضها بعضاً وأنا في مكاني أنظر للأحجار التي تبكي وأنا ابكي ذراعي التي سقطت مني في الطريق.
أشعر بأن هذا الكلام بحاجة إلى ترجمة.