جمال جبران
(1)
صباح أحد أيام الاسبوع الماضي، احتفل نيلسون
مانديلا بعيد ميلاده الرابع والتسعين. الرجل الأيقونة والرمز ودع عاماً واستقبل غيره
في عصره المديد وسجل رقما جديدا في اليوم الذي اختارته الأمم المتحدة كي يصبح
"يوم نيلسون مانديلا العالمي" لـ"مساهمته في حل النزاعات الدولية وتشجيع
العلاقات بين الأعراق وحقوق الإنسان "، ولاعتباره "من أعظم الزعماء السياسيين
والأخلاقيين في عصرنا ".
ولنيلسون مانديلا يحتفل العالم ويرقص الناس
في الشوارع. والرجل يستحق هذا وأكثر وهو الذي تأكل في سجنه سبعة وعشرين عاما . (رقم
ثقيل هو ويجعل البطن ثقيلة وعاجزة عن فعل شيء. أن تكون في السجن كل هذا الوقت والعمر
الطويل ليس نزهة أو إجازة سنوية. هي حياة كاملة وقد تشكلت رقما كبيرا قبالتك كلوحة
أو صورة معلقة على الدوام فأين تهرب منها؟ 27 عاماومنزوعة من سجلك الشخصي. عمرك كله
ناقصا هذا الرقم. يعنى أنك لم تعش سبعة وعشرين عاما، أنها سرقت منك ولم يعد أمر استعادتها
ممكنا).
لكن الأمر يختلف عندما يكون الحلم خلف النافذة.
أنت في السجن سبعة وعشرين عاما لكن الحلم خارج السور المرتفع وتنظر إليه صباح مساء
وسنة تلو أخرى. الحلم ويقترب مع ذهاب الرقم في تصاعده والأيام في تواليها. الحلم وهو
يغدو حقيقة ممسوكة باليد
(2)
ويعيش نيلسون مانديلا اليوم كطفل مدلل نجح في اختباراته
المدرسية وتحصل على شهادة تفوقه. كأن العالم يقدم اعترافه وامتنانه لهذا الرجل، الرمز
الذي جعل من حياته نموذجا في العزيمة وقوة الإرادة والرغبة في تغيير واقعه إلى مساحة
أخرى لا تكون مرتبطة أبدا بما كان. الحياة التي يعيشها الآن تقول بهذا، إضافة للفعل
الذي قام بصنعه عقب خروجه من السجن الطويل والممتد على مسافة سبعة وعشرين عاما رافعا
راية التسامح والأخوة نابذا كل ماله علاقة بالعرقية والتعصب والاحتراب. من ينظر لجنوب
افريقيا كيف كانت وكيف صارت سيعرف تماما أثر الفعل الذي صنعه مانديلا وما الذي صار
يمثله في قلوب مواطني جنوب إفريقيا حتى أنهم لا يقدرون حتىمجرد التفكير أن جنوب إفريقيا
ستكون بدونه في حالة ما حدث له شيء. ومن الوقائع شديدة الدلالة فيما يخص هذه النقطة،
ما حدث قبل أيام ويمكن تلخيصه في موجز الخبر التالي "أدان حزب المؤتمر الوطني
الأفريقي الحاكم في جنوب أفريقيا رسما صور جسد الزعيم الأفريقي، نيلسون مانديلا وهو
ممدد فوق طاولة ".
وأضاف الحزب أن العمل الفني الذي يتم إكماله
في مركز تسوق بجوهانسبورغ ينتهك كرامة مانديلا. واللوحة.. تصور مجموعة من طلبة الطب
يتحلقون حول طبيب يقوم بتشريح إحدى الجثث.
وتبين اللوحة الفنية جسد مانديلا وهو يخضع
للتشريح في حين يحتشد حوله زعماء بارزون. لكن الفنان ييول داماسو، الذي رسم اللوحة
قال إن هدفه هو جعل الناس يواجهون فكرة الموت.
وأضاف قائلا، "مانديلا رجل عظيم لكنه
يظل رجلا لا أكثر، موته في نهاية المطاف حقيقة ينبغي أن نواجهها سواء كأفراد أو كشعب"
إن ألحديث عن موت مانديلا من الممنوعات، وينظر إليه على أنه يخل بالاحترام الواجب للزعيم
الرمز لجنوب أفريقيا ومواطنيه الذين لا يتحدثون علانية عن احتمال موته وذلك احتراما
له وربما خوفا من قبول حقيقة أنهم قد يجدون أنفسهم يوما ما بدون مانديلا.
(3)
وعليه لا جديد اليوم في كل ما يحدث له من احتفاء
وتكريم. كأن العالم يترقب فقط التقاط أدنى فرصة أو مناسبة للاحتفاء به. تاريخ ميلاده.
اليوم الذي دخل فيه السجن. اليوم الذي خرج منه. اليوم الذي تولى فيه الرئاسة. اليومالذي
رفض فيه الترشح ثانية للحكم. اليوم الذي تم فيه إعلان فوز جنوب إفريقيا بشرف تنظيم
بطولة كأس العالم من أجل عيون نيلسون مانديلا. (كما هو معروف، أن لمسألة الفوز بشرف
تنظيم كأس العالم شروط صارمة وإمكانيات لا بد أن تكون متوافرة، ليس المادية منها فقط،
بل ما هو أبعد من المادي. وجنوب إفريقيا كانت تعاني من عدة إشكاليات لو كانت حاصلة
في بلد ثان غيرها لما كان لها شرف الفوز بتنظيم البطولة، ولكنها عيون نيلسون مانديلا
التي لا يجد أصحاب القرار قدرة على رؤيتها حزينة ومكتئبة بعد كل الذي كان معها في سنوات
السجن وما قبله. فجنوب إفريقيا تعد من أكثر البلدان في العالم في نسبة ارتكاب الجرائم
حيث تصنف من البلدان غير الآمنة. جرائم قتل وسرقة بالإكراه واغتصاب ودعارة. لكن وعلى
الرغم من كل هذه الأرقام والنسب المخيفة وافق
العالم على إقامة البطولة هناك. كأن القائمين
على أمر الكأس أرادوا أن يقولوا: "رغم كل شيء ستكون بطولة كاس العالم في جنوب
إفريقيا من أجل عينيك فقط يا نيلسون ". وكان أن نجحت البطولة، بطولة مانديلا،
نجاحا باهرا ولافتا. كأن كل شيء كان يتأمر من أجل إنجاحها كي يرتاح بال هذا المانديلا.
(4)
وهناك ما هو أبعد من كل هذا. تكريم من نوع أخر.
تكريم مختلف يثبت و يدوم طويلا ليراه الناس في كل أنحاء العالم. هو الاحتفاء بنيلسون
مانديلا سينمائيا.بداية من فيلم "وداعا بافانا " (انتاج عام 2007 ، إخراج
بيلي أوجيست والذي يحكي السيرة الحقيقية لسجان أبيض البشرة تم تكليفه بمهمة مراقبة
مكالمات ورسائل نيلسون مانديلا في سجنه وكيف تحولت العلاقة بينهما، من سجان أبيض يود
لو أعدموا هذا السجين الأسود الليلة قبل الغد، إلى علاقة صداقة من نوع خاص). وصولا
إلى فيلم " Invictus
" وتعني باللاتيني "الرجل الذي لا يمكن
قهره ". ولهذآ الفيلم ظروفه:
مكث الفنان الأمريكي الأسود الجميل مورغان
فريمان وقتا طويلا في البحث عن قصة فيلم تليق بصديقه الأثير نيلسون مانديلا تكون بمثابة
هدية له بمناسبة ذكرى إطلاق سراحه (وهو الذي كان يعلن على طول أن أمنية حياته هي تجسيد
شخصية مانديلا سينمائيا). ومر وقت طويل حتى يجد هذا الممثل الفائز بجائزة أوسكار أفضل
ممثل ثان
عن فيلم » مليون دولار بيبي »، رواية
» ملاعبة العدو « لجون كارلين فلم يتأخر بالذهاب بها إلى كاتب السيناريو الجنوب
أفريقي أنطوني بيكهام كي يجعلها صالحة للتنفيذ. حينها لم يكن متبقيا سوى قيام فريمان
بإبلاغ صديقه المقرب كلينت استوود، المخرج والممثل الأبرز، إبلاغه أن قد وجد ضالته
أخيرا. (وزيادة في توضيح رمزية مانديلا، تم بدأ التصوير في 11 يوليو، يوم ميلاده،
على أن تبدأ العروض الرسمية له في الذكرى العشرين لإطلاق سراحه من السجن، وهو ما كان).
بطبيعة الحال لم يكن اسم الرواية "ملاعبة
العدو " صالحاً كي يروي سيرة شخص قد تجرد من الأعداء في حياته. ولهذا كان من
الضروري إيجاد بديل ملائم وموجز له أن يقول حياة في مفردة وقد كانت مغردة "أنفيكتوس
" وهي مأخوذة من قصيدة مكتوبة العام 1875م من قبل الشاعر الانجليزي وليم هنلي،
كان مانديلا يحرص على ترديدها في سجنه الانفرادي وتقول في بعض من أبياتها:
"لا يهمني مدى ضيق البوابة / ولا قسوة العقاب
المكتوب على المخطوطة / فأنا قائد مصيري / وأنا سيد روحي"
وهي القصيدة التي أعطاها في العام 1995 أثناء استضافة
جنوب أفريقيا لبطولة كأس العالم للعبة الرجبي، أعطاها لقائد فريق بلاده، الأبيض البشرة
والمنتمي لعائلة عنصرية لها موقف نهائي من مسألة تطبيع العلاقات مع السود، وقال له
"أريد أن تفوزوا بكأس العالم".
(5)
الفيلم، باختصار، يتخذ مساراً منتظماً. بداية من
خروج مانديلا من السجن. استضافة جنوب أفريقيا لكاس العالم للرجبي ومانديلا على رأس
السلطة. الانتصار لقيم الجماعة الواحدة التي ناضل الرجل من أجل تحقيقها. ولماذا لعبة
الرجبي بالذات؟ لأنها اللعبة التي عرف البيض في جنوب أفريقيا باحتكارهم لها وهو ما
دفع بنقمة السود عليهم. حتى أنهم كانوا يقومون بتشجيع أي فريق يلعب في مواجهة منتخب
بلادهم المفترض. من عنا التقط مانديلا الخيط. الرياضة باعتبارها مساحة خصبة يمكن عليها
زراعة مفاهيم وقيم جديدة لها أن تعمل على توحيد المشاعر الوطنية تجاه بلاد واحدة هي
بلاد الجميع وعليه من خلالها إظهار أنه رئيس الجميع وليس للسود وحدهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقات