يد بابا جبران |
أخي محمّد مات. كيف سيمكنني نقل
الخبر إلى أبيّ العجوز الذي يعيش في التسعين من عمره! كيف أخبره وأقول: لقد مات
أقرب الناس إلى قلبه.أقرب الناس إلى العائلة والناس.
مهمة ثقيلة كانت. ها أنذا أبدأ في ممارسة
مهنتي الجديدة: وراثة المهام الثقيلة التي كان محمّد يتكفّل بها بمفرده في وسط
العائلة.
عندما كان على قيد
الحياة كنتُ مطمئناً دائماً ولا أحمل عبئ شيئ. هو كان يقوم بالأشغال الاجتماعية
التي لا طاقة لي بها ولا أقدر عليها فاحتمالي لها ضعيف. ولهذا كانت ماما تقوم
بانتقادي دائماً: "ستعيش وحيداً ياجمال وستموت وحيداً على عكس أخوك محمّد".
لكن يبدو أن ماما أخطأت التوقع هذه المرّة؛ فمحمّد هو الذي مات وبقيت أنا على
الأرض من دونه،وحيداً.
كنت أقول: لو مات بابا
جبران أو ماما زمزم فسوف يتكفّل محمّد بترتيب كل شيئ؛الاتصال بالأقارب والأصدقاء،تدبير
أمور المقبرة واستئجار صالة لاستقبال المعزّين
وأمور الولائم المفترضة في مثل هذه الطقوس التي لا أعرف عنها شيئاً. محمّد كان
عالماً بكل هذه المشاغل وقادراً عليها بحكم جيناته الاجتماعية وتواصله الدائم مع
العالم،على عكسي تماماً. لكنّه مات وتركني أتكفل بكل شيئ. لقد أصبحت كبير العائلة.
لا أدّعي إن الله قد أثقل
عليَّ عندما قرر اختطاف محمّد من حياتي، لقد قتلني.هذا ما يمكن قوله بكل بساطة. هل
فقدت الدنيا أهميتها عنديّ! نعم، وصار عليَّ منذ اليوم أن أواصل حياتي بالقوة
القليلة التي تبقّت معي.
وأقول في نفسي: ماهي
القسوة! هي هذه المهمة التي سأقوم بها الأن وأنا أقوم بنقل خبر موت محمّد إلى
بابا.
كان الوقت قرب الفجر
والدنيا رمضان. مطر قليل يحاول النزول في مهمة كأنها لترطيب جوف القبر الذي سينام
فيه محمّد إلى الأبد. دخلت بيتنا القديم وبابا مستقر في ركنه الأثير في انتظار
صلاة الفجر. سلّمت عليه بتقبيل رأسه،كالعادة.طريقة يعرف منها أنه أنا. طريقة
اخترعتها بعد أن صار أعمى لا يرى ويقدر بواسطتها تمييزي عن غيري من أفراد العائلة.
كانت أخر زياراتي له قبل نحو ستة أشهر، كنت خارج اليمن.
قلت له: هيّا بابا. توقفَ
عن مضغ التمرة التي في فمه الخالي من الأسنان. قال: لافين (إلى أينّ؟). كنت أعرف
انه عارف بالخبر. انه قد عرِف، قلبه خطير ودليل لم يخدعه يوماً. كان ينتظر فقط من
يوصل إليه الخبر كي يتحرك بناء عليه. مهمة الإيصال،هذه التي تكّفلت بها أنا.
بدت المسافة بين بيتنا
هذا وبيتنا الثاني،حيث أقيم مع ماما، طويلة جداً وصامتة من ناحيتي ،في حين كان فمه
يصدر صوتاً خفيفاً كأنه يناجي السماء أو يتحدث مع الله في عتاب صغير بينهما.
كان يلزمنا تجاوز نقطة
حاجز عسكرية من أجل الوصول إلى البيت.ما تزال الأحوال مضطربة بعد رحيل علي عبد
الله صالح. العسكري الذي طلب فتح نافذة السيّارة بغرض التفتيش والتحقق من الهويّات
لم يفعل أكثر من هذا. لقد كان خبر موت محمّد ظاهراً بوضوح على وجهيّ فمنحنا إشارة
تكفي لتواصل سيارتنا طريقها إلى البيت،بيتنا الذي تنام فيه جثة محمّد.
لم أُسقط دمعة واحدة طوال
اليوم. الناس كُثر وأنا لا أقدر على البكاء أمام جمهور. كما كان من الضروري أن
أظهر ضابطاً نفسي ومستقيماً كرجل يستعد لدخول غمار حياة جديدة،رجل قادر على وضع
جبال الدنيا على ظهره.
تركناهما منفردين،أبي
وجثة محمّد، وأنا كمراقب. الناس في الخارج وصوت القرآن يرتفع بداخل البيت. أبي
وجثة محمّد وأنا في نفس الصالة الواسعة التي كانت أخر بقعة على الأرض انطلق منها
إلى المشفى وقد غاب عن الوعيّ بسبب وصول الحمّى إلى الدماغ. من هنا انطلق إلى
المشفى وعاد إلى هنا،بعد ثلاثة أيام لكن على هيئة جثة.عندما خرج من البيت كان غير
قادر على تمييز المحيطين به.لم يعرفني عندما ااقتربت منه.هي حالة من اقتربت خطواته
من الموت. فيروز شقيقتي الصغرى والمشرفة على حالة محمّد كانت تعرف ولم تخبرني.
وضع بابا يده على رأس
محمّد وراح مخاطباً إياه بصوت شبه مرتفع كان يصلني بوضوح. هو في الحقيقة كان
يخاطبني أنا. خطاب أم عتاب أم تأنيب! كل هذا.
- لِمن تتركني يا محمّد! من سوف يسأل عنيّ
يا محمّد! من الذي سيقودني إلى مسجد صلاة الجمعة يا محمّد! من سيذبح خروف العيد
يامحمّد!من سوف يحميني من الموت بعدك يا محمّد. مَن ومَن ومَن .. كل الأشياء التي
لم أكن أفعلها وكان يفعلها محمّد.
ها أنّذا ، من اليوم ،
أخلع ملابسي وأرتدي ثياب أخي محمّد.
(جزء من "كتاب محمّد" قيد الإنجاز)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقات