جمال جبران
(1)
سؤال أول: ماذا يفعل الناس بكل هذا الوقت الذي هو أعمارهم! من أين
يأتي الصبر لحياة قد تصل إلى الثمانين من سقفها!
سنة وخمس وعشر. أليس هذا كثيراً على الحياة معاً! ألا يمكن البحث عن
حياة أخرى في مكان آخر مع أشخاص آخرين!
هؤلاء الذين يعيشون هكذا، بصبر واشتياق دائم وحب ألا يضجرون من هكذا
حياة!
بطل رواية الكاتب اللبناني حسن داود الأخيرة "لا طريق إلى
الجنة"، يحاول وهو يذهب في المرض البحث عن حياة جديدة بعيداً عن تلك التي
كانت له مع زوجته لسنوات. هل يحدث هذا فعلاً في الحياة!
(2)
يبحث السينمائي النمساوي
الشهير مايكل هاينكي مجدداً في سؤال الألم الإنساني والانتظار على مستويات كثيرة.
في فيلم (حب )
جديده الذي استحق جائزة السعفة الذهبية في مهرجان (كان) السابق ومن
بعده جائزة أوسكار أفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية هذا العام. يقوم بجمع الممثل العجوز
الفرنسي جان-لوي ترنتنيان الذي كان قد فتح حياته السينمائية مع فيلم "الله
صنع المرأة" في العام 1956 مع الممثلة الشابة وقتها بريجيت باردو. وهو اليوم
يلعب فيلمه "حب" مع الفرنسية العجوزة إيمانويل ريفا التي كانت بدورها قد
بدأت السينما عن طريق فيلم " هيروشيما حبيبتي" العام 1959 مع المخرج
الفرنسي الآن رينيه وهو الفيلم المأخوذ عن رواية بنفس الإسم للكاتبة الشهيرة
مارغريت دوراس. ولا يتوقف مايكل هاينكي فقط عند جمعه ترنتنيان و ريفا بل يأتي
بالفرنسية الفاتنة إيزابيل هوبير التي ستلعب دور ابنتهما. وهي كانت قد اشتغلت مع
هاينكي في العام 2001 فصنعا فيلم "معلمة البيانو" لتحصل على جائزة
السعفة الذهبية لأفضل ممثلة عن دورها هذا وهو المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتبة
النمساوية الفريد إيلنيك،صاحبة جائزة نوبل للآداب العام 2004. عمل يبحث بدوره في
مسألة الوقوع في الغرام رغماً عن فارق السن الذي يقف بين تلميذ مراهق ومعلمته ويتم
التعبير عن ذلك بإبراز الألم الإنساني الذي يترتب على عملية بناء مستحيلة لا يمكن
لها أن تتم في مناخ يرفضها تماماً ويقوم بالتشهير بها.
(3)
في "حب" نجد شيئا شبيهاً بهذا لكن مع عدم توافر مسألة
الفارق العمري. يفتتح الفيلم بمشهد اقتحام الشرطة لشقة مقفلة ليجدوا جثة امرأة على
سريرها وتحيط بها الزهور من كل جانب. لون بشرتها مائل إلى الزرقة ،ما يقول أن
الوفاة قد صارت منذ وقت طويل وكذلك الرائحة المنتشرة في المكان.
يعود الفيلم إلى الوراء ببطء. بطء من ذلك النوع الفرنسي المبني على
إيقاع يمشي الهوينا كأنه لا يريد أن ينتهي. كأنها رتابة متعمدة وتقول لمشاهدها أن
اذهب بعيداً فلا جديد في الأمر. طريقة يتعمدها هاينكي وهو يعلم جيداً أنه قد خلق
علاقة مع ذلك المشاهد الملول الذي سوف يدرك لاحقاً أن هناك مايستحق الانتظار
لمشاهدته.
يعود الفيلم إلى الوراء من بدايته . نرى لعاشقين تجاوزا الثمانين من
عمرهما. نراهما عائدين من سهرة موسيقية و ابتسامة عالية ترتسم على هيئتهما. في
اليوم التالي تصاب السيدة بصدمة في الدماغ
فلا تعود قادرة على التصرف في حركة حياتها. يأخذها إلى المشفى لكنه يعود معها.
يبدو غير مصدق أو غير واثق في صوابية ماحصل. من جهتها تخبرهُ أن عليه عدم تركها في
ذلك المشفى، هي تريد أن تموت في البيت.
ابنتهما (إيزابيل هوبير) تأتي لتشاهد ما حصل في غيابها. حياة لشخصين
يديرها شخص واحد، معاً. الرجل العاشق يعيد ترتيب حياته وكأنها صارت مقسومة بشكل
عملي بين اثنين. يقوم بكل شيء في البيت. الابنة تواجه هذا بطلب نقل والدتها إلى
المشفى فهناك سيكون الوضع أفضل للطرفين. رفض تام. يبقى العاشق العجوز في البيت ولا
يخرج منه إلا لجلب شيء. يبقى سارداً ومهتماً بالتفاصيل الكبيرة والصغيرة. وبغية
وصوله إلى نقطة قصوى في الوصول إلى متانة الاهتمام بتلك التفاصيل يعمل على طرد
العاملة التي كانت موظفة في البيت. هو يريد،بمفرده أن يكون المشغول الوحيد بعشيقته
العجوز ولا شأن للعالم بها.
(4)
لا تحركات كثيرة للكاميرا أو تنقلات لها خارج ذلك البيت. التصوير هناك
فقط. لا مجال لأي تشتيت مع ذلك البطء الذي تسير به الأمور. الحياة الكثيرة كلها
وتعاد عملية روايتها من قبل العجوز في مقابل عجوزته التي تغادر سنواتها الكثيرة
لتعود بتصرفات طفلة. كلامها لا يظهر واضحاً، تردد مثل تلك المفردات التي يبدأ فيها
الأطفال التدريب على الكلام. هي تبدو عجوزة فقط عندما تتعمد الوقوف عند مفردة
"ألم". تكررها باستمرار وهي تنظر إليه. كأنها تطلب منه شيئاً وعليه أن
يقوم بتنفيذه. لقد انتهت حياتها ولم يعد هناك سوى "ألم". لكنه لا يسمع
أو يحاول أن لا يسمع، يمنع الكلمة من أن تصل إلى أذنيه وقلبه. يحاول الفرار والهرب
إلى نقطة تطبيق دور الأم، كأنه صار أمها وهي تتمنع عن تناول وجباتها. يمسك بفمها
ويفتحه بالقوة عاملا على إمرار الطعام. هو يحاول إبقاءها على قيد الحياة وهي تتعمد
تكرار مفردة : "ألم".
يستمر المرور البطيء للمشاهد التي تتقلب في مكان واحد. والمشاهد في
مكانه لا يملك خيار الهروب من كل هذا الألم البطيء والقاسي وصولاً إلى النهاية
التي ينتظرها ويعلم بيقين أمر حدوثها لكنه لا يريد أن تنتهي هكذا. مشاهد يريدها أن
تكون نهاية أقل ألماً لكن لا سبيل من النجاة منها. لا مفر من مشاهدة ذلك العجوز هو
يقوم بتقريب الوسادة من أصابع يديه. يجلس على السرير ويقوم بتقطيع أغصان تلك
الزهور التي ظهرت في بداية الفيلم، وانتهت به.
(5)
فيلم أنيق وساحر ومؤلم في آن. يستحق الُمشاهده.______________________
مقال منشور في عدد الخميس 27 يونيو 2013- جريدة "الثوري". صنعاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقات